رغم الصعوبات التي واجهت حج هذا العام والتي نتجت عن افتراش حجاج الداخل من العمالة الوافدة وإصرار البعض خاصة النساء على تكرار الحج كل عام وعدم ترك الفرصة للآخرين إلا أنه كان ناجحا وموفقا. كما تقوم بعض الجهات الحكومية بنقل المرضى المنومين في مستشفيات المملكة بسيارات الإسعاف إلى المشاعر المقدسة، وتخصيص مواقع لهم ومخيمات وخدمات طبية طيلة رحلتهم هذه الشاقة والمضنية، لأداء فريضة الحج وهذا الفعل إنما هو على خلاف الأصل لقوله تعالى: «ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا» . فهل هؤلاء المرضى الذين يحملون في سيارات الإسعاف يدخلون في حكم الاستطاعة؟!.. فالذي عليه عامة أهل العلم أن المرء إن لم تتوفر لديه الاستطاعة البدنية والمالية فإن الحج غير وارد في حقه. قال الباجي، المنتقى 3/450 : فالآية وردت مقيدة لمن استطاع السبيل إلى البيت ومن لم يستطع السبيل إليه لم يتناوله الأمر ولا يجب عليه الحج. وقال القرطبي، البحر المحيط 3/2 : إن استطاعة السبيل الصحة وأجمعوا أن المريض لا يلزمه الحج، ذكر ابن حجر ، فتح الباري 4/152 قوله عليه الصلاة والسلام في معنى الاستطاعة وهو توفر الزاد والراحلة، غير أن هذا بالحديث استدلوا بدلالة الاقتضاء ومنه الصحة في البدن لأن توفر الراحلة يقتضي عقلا استطاعة الركوب وهذا من مستلزمات الصحة في البدن. فإذا سقط عن المرء الحج وعدم الاستطاعة فإنه لا يكون للإنابة أي معنى. فبعض الناس يعطي مبلغا من المال لزيد أو عمرو ليحج عنه أو عن والده المتوفى وهذا مردود جملة وتفصيلا من جهتين: الأولى ما تقدم ذكره من أن عدم توفر الاستطاعة يسقط الحج عن المرء بحكم الآية، والثانية أن هذا مردود بحشد من الآيات الدالة على أن المرء بعد موته ليس له معه في قبره وحسابه في الآخرة إلا ما قدمت يداه من العمل في حياته، مثال ذلك: قوله تعالى (تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون)، وقوله تعالى (والذين آمنوا وعملوا الصالحات في روضات الجنات). فعمل ابن آدم وما كسبت يداه هو المعول عليه وليس ما يصوم عنه فلان أو يحج عنه بعد موته حتى الصدقة إن لم يتصدق بها في حياته وأوصى أن يتصدق عنه بعد وفاته فهذه لا تنفعه في شيء، وقد قال عليه الصلاة والسلام في انقطاع ابن آدم عن الدنيا بعد وفاته إلا من ثلاث ذكر منها الصدقة الجارية وهو الوقف الذي يفعله المرء في حياته والولد الصالح الذي يدعو له وهذا لا محظور فيه وقد يدعو المرء لعزيز لديه ميت كما يدعو عامة الناس لجميع موتى المسلمين. كما أن بعض الناس يتباهى بأنه جاء إلى الحج ماشيا على قدميه أو أنه يذهب إلى العمرة في عز الظهيرة وشدة الحر صائما وماشيا وهذا أولا للرياء أقرب منه إلى أي شيء آخر، وثانيا هو مردود من جهة الشرع. فإن الرسول عليه الصلاة والسلام رأى رجلا قائما في الشمس صائما فأمره أن يترك كل هذا التعذيب ويتم صومه. ذكره ابن حجر، الفتح 13/45. وقال عليه الصلاة والسلام: إن الله غني عن تعذيب أحدكم نفسه. وذكر ابن حجر، الفتح 13/455 أن رجلا قال للرسول أن أخته نذرت أن تحج ماشية فقال عليه الصلاة والسلام: إن الله لا يصنع بشقاء أختك شيئا لتحج راكبة ثم تكفر عن يمينها. ذكره في باب الكفارة عن عدم الوفاء بالنذر في المعصية واعتبر أن تعذيب المرء نفسه من باب المعصية. وذكر بالمناسبة حديث المرأة التي نذرت أن تضرب بالدف في حضرة الرسول عليه الصلاة والسلام فرحا بعودته من تبوك سالما وأنه أذن لها أن توفي بنذرها. فالشاهد أن ما يعتقده الناس من أن تعذيب المرء نفسه في العبادة فيه زيادة أجر ومثوبة إنما هو معتقد فاسد ولا أصل له في الشرع بالإضافة إلى ما يكتنفه من الرياء والسمعة وهو أمر خطير، كما أن المعتقد بأن ما يفعله المرء من العبادة سواء كان الحج أو العمرة أو الصدقة أو الصيام وينوي بها لفلان الميت أو لأبيه أو أمه كل هذا فاسد ومردود بحشد من الآيات السابقة. والأصل في كل أعمال ابن آدم التي فيها معنى قربى إلى الله أن يكون لها حكم الشرع، وأن الاختراع بالرأي في الدين والعبادة إنما هو من سوء الأفعال كما قال تعالى: (أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله). [email protected]