حين تفور أي ثورة فإنها تستهدف حالا غير الحال الذي كان قبل قيامها، فهي ثورة غضب باحثة عن الأفضل وليس الأردأ. وكل ثورات العالم تتحرك دائما للأمام بآليات مغايرة للأنظمة الساقطة من خلال تعزيز مبدأ حقوق الإنسان بالعيش في كرامة وأمن ورخاء وإلا فإن نهوض أي ثورة جالبة للفوضى والفقر والتناحر وسرقة البلاد تكون ارتكاسة وليست ثورة. وأعلم تماما أن أي ثورة هي بحاجة إلى الوقت لكي ترسي مبادئها وتؤسس لوجودها الفعلي بخطوات تشير إلى أن التغير سيكون للفضل وليس للسوء. يحدث هذا وفق ثقافة الفرد والمجتمع الذي يحدث الثورة، ولو تطلعنا إلى ثوراتنا العربية سنجد أن السودان قدمت نموذجا ثوريا مبكرا (يحق لنا الحكم عليه) حين خرج الشعب للشارع وأزاح النميري من على سدة الحكم وقال السودانيون يومها: لن يجرؤ أي رئيس قادم على الاستبداد فإن حدث فسوف ينقلب عليه الشعب. وقد مضى على الثورة السودانية سنين طويلة زادت السودان فقرا على فقر وانتهت بتقسيم هذا البلد العظيم على يد جبهة الإنقاذ برئاسة عمر البشير وتأييد حسن الترابي (المسوغ الديني) ثم تناحر رفاق الأمس وتقطعت السودان على يد المنقذين. وفي نفس التجربة نتذكر سقوط بغداد واعتلاء من لقبوا أنفسهم بالثوار لسدة الحكم فلم يكن أمامهم سوى التناحر وإدخال العراق في مذبحة طائفية وفقر مدقع حتى أن الفرد أصبح راتبه الشهري دولارين، دولاران فقط في بلد تنام على حقول النفط، ومع هذا البؤس لا زال الثوار (الصوريون) في العراق يتم تصويرهم للشعب بأنهم المنقذون بينما إقليم كردستان على وشك الانفصال. هاتان ثورتان قديمتان ومنهما يتكشف لنا الجين العربي الخبيث الذي يلتصق بين اللحم والعصب، جين مهووس بخلق الزعيم المستبد، فنحن العرب نقود القائد إلى حالة الاستبداد والتفرد، ولو بسطنا ملامح صناعة الزعيم المستبد سوف نلحظ بذورها المزروعة في كل الثورات العربية (ثورات الربيع العربي) فهي الآن تبذر فقط وتحتاج لبعض الوقت كي نسقيها بماء النفاق على طريقة (كله تمام يا افندم). أعود وأقول أن الخطوات التي تسير بها الثورات العربية لا تبشر بمولد نظام يحترم الإنسان بإعطائه حقوقه الإنسانية أو يقدس أمانة أو يسعى لرفاهية شعبه .. ثوراتنا العربية قامت بها الشعوب واختطفتها قلة من المتنفعين وهي الآن ترسي دعائم استبداد بصورة جديدة وللأسف تم إدراج الدين كوسيلة لتمرير أهداف الزعماء فأصبح الاعتراض على سياساتهم اعتراضا على الدين مما يسهل عليهم قمع أي صوت ينبه تلك المجتمعات بأن فرعونا جديدا قادما ليقول لهم: أنا ربكم الأعلى !.