لم تكن قفزة فيليكس بالحدث الذي يمكن له أن يمر من غير أن تكون هناك العديد من الاستقراءات الفكرية ذات الدلالة المعرفية أو الثقافية، فالحدث مهما كان صغيرا في نظر البعض، فإن له حمولاته الثقافية والفكرية التي نتج عنها، أو أعطى دلالة عليها بوصفه حدثا يمكن له أن يخضع للتأويل المستمر والقراءة السيميائية يفضي إلى ما هو أعمق بكثير من قفزة من حافة الفضاء. بمعنى الحدث البسيط والمباشر هي قفزة رياضية، لكنها بالمعنى الأبعد قفزة علمية ذات بعد ثقافي وفكري يذهب بالمسألة إلى أقصى مداها في سؤال الفكر الغربي كاملا منذ قرر الرجل الأبيض في القارة الأوروبية أن يجترح لذاته الثقافية سياقا مختلفا عن سياقات العصور القديمة، أو التفكير خارج التصورات الميتافيزيقية ليصنع ميتافيزيقية أخرى يمكن أن نسميها ميتافيزيقا الحداثة، والتي جاءت نظريات ما بعد الحداثة لتتجاوزها، أو كما هو وصف ميشيل فوكو: (محاولة الانفلات من قبضة هيجل) حيث اكتمال التصور الميتافيزيقي في فلسفة هيجل الجدلية للتطور التاريخي. إن الحدث (أي حدث) في أصله نابع عن ما قبله من أحداث أو مقولات أو تصورات أو تاريخ فكري ممتد، كما أنه يفضي إلى ما بعده من تصورات ومقولات وتاريخ يمكن له أن يتشكل، أو أنه تشكل برؤية جديدة، والمعنى ينضاف من محاولة التأويل حتى على المستوى القيمي للأشياء، وإذا ما أردنا استعارة مقولات الفيلسوف نيتشه فإنه يقول: «ليست قيمنا إلا تأويلات أقحمناها في الأشياء. هل يمكن أن يكون هناك معنى في ذاته؟، أليس كل معنى نسبيا؟، أي منظورا؟، كل معنى هو إرادة قوة » ، كما أنه يقول في سياق آخر: «ليس هناك حادث في ذاته. فكل ما يحصل ويتم ليس إلا مجموعة من الظواهر التي انتقاها واختارها مؤول». إرادة القوة في فلسفة نيتشه تعني تلك المعاني التي تخضع إلى نوع من التأويل من أجل فرض قيم سابقة أو جديدة من خلالها يمكن القبض على قوة تمنحها هذه القيم لمانحي المعنى. إرادة القوة تعني إرادة السيطرة، والإنسان الحديث استطاع السيطرة على الطبيعة من أجل القوة، لذلك نحن نرى تمثلات القوة في كل مكان من حياتنا اليومية، والمعرفة تصب في صالح تلك القوة، حتى لو كان من قبيل حدث رياضي كقفزة فيليكس التي تجسدت فيها رغبة ومغامرة «السوبرمان» أو «الإنسان الأعلى» كما هو تعبير نيتشه نفسه، في مقابل الإنسان الأخير أو الإنسان العادي والطيب الخاضع للقيم العامة في أي مجتمع. طراز الإنسان الحديث هو إنسان معرفي مغامر. المعرفة ذاتها مغامرة تتجلى فيها «إرادة القوة». الإنسان الحديث يتفوق على ذاته ويروض الطبيعة من حوله. تلك الطبيعية التي كانت تستعصي عليه في سابق عهده. مغامرة الإنسان هي مغامرة العلم الحديث.. في قفزة فيليكس تتجلى قدرة الإنسان على إضافة معنى القدرة على ترويض الطبيعية، وإن كانت الفلسفات الحديثة تؤكد على غياب المعنى إلا أن غياب المعنى هو معنى بشكل أو بآخر كما أتصور (التأويل الحديث إضافة معنى حتى في غياب المعنى). الحدث يعني فيما يعني نوعا من رغبة الإنسان في الوصول إلى مغامرته الإنسانية الكبرى بخرق حجب الوجود، واستنطاق كينونته الوجودية من خلال محاولات العلم التجريبي، عن طريق قفزة رياضية لها مالها من معاني تحدي الإرادة البشرية الخاضعة إلى القيم القديمة التي لا تؤمن إلا بالضعف الإنساني، لذلك جاء فيليكس بحدثه ذي المعنى الدلالي الجديد، فجسدها رياضيا، ومنح البشرية ثقتها بذاتها، وتطورها الفكري خارج الأطر الميتافيزيقية التي صنعتها البشرية لنفسها، وقيدت ذاتها بذاتها.