يشي تيار ما بعد الحداثة بأن هذا العصر انما يمثل نهاية عصر الحداثة وبداية ونهاية «السرديات الكبرى» التي تشمل جميع الفلسفات والمذاهب الكبرى التي سعت الى تفسير العالم تفسيراً شمولياً وقيادة الانسان وتوجيهه في كل مناحي الحياة كالمذاهب الرأسمالية والاشتراكية. وهم يعتبرون ان الحداثة، شأنها شأن الفلسفات الكبرى ادت الى تكبيل الفكر وحجزه في اطار ضيق لا يستطيع التحرر منه، وبذلك انتهكت حرية الانسان الفكرية وحقوقه بسبب ان هذه المذاهب تقوم على فلسفات تدّعي الوصول الى الحقيقة. وقد انطلقت ردة الفعل هذه ضد تمجيد النزعات الوضعية والتقنية والعقلانية وفكرة التقدم والتخطيط العقلاني الرشيد للأنظمة الاجتماعية وتوحيد انماط انتاج المعرفة. ويمثل التشكيك في فكرة الحداثة وأهدافها القاسم المشترك بين كل الاتجاهات الفرعية لما بعد الحداثة، التي تعتبر التنوع والتعدد والاختلاف والتفكيك واللاتحديد من سمات عصر ما بعد الحداثة، الذي يسعى الى تجاوز التصورات العقلية ومفهوم الذات العاقلة الذي ارسى دعائمه ديكارت ثم كانت، وبهذا فإن ما بعد الحداثة يشمل خطابات متنوعة ومتعددة تلتقي كلها حول نقد الاساس العقلاني والذاتي للحداثة. ومع ذلك فإن مفهوم ما بعد الحداثة ما زال موضع نقاش وسجال لإسباب عدة منها: اولاً، من حيث الشرعية. فالبعض يقول انه لا توجد ظواهر كافية تبرر استخدام هذا المفهوم، وأن ما بعد الحداثة «شراب معتق في زجاجة جديدة»، وأن السجال الذي يدور حوله يكشف عن سعار سرعان ما ينكشف زيفه، وهو محاولة للهروب من قبل اولئك الذين ينادون بظهور عصر جديد، بعد ان وجدوا ان عصر الحداثة لم يحقق ما وعد به. ثانياً، من حيث الاستخدام. فما زلنا نعيش عصر الحداثة، وما يستخدم الآن ليس سوى محاولات مختلفة تريد تثبيت نفسها وصدقيتها. وفي الاساس فإن ما بعد الحداثة هو مفهوم ادبي امتد تأثيره الى الفن والعمارة، ثم انتقل الى علم الاجتماع والفلسفة. واذا كانت الحداثة تربط التقدم بالثقافة والعقلانية، فإن ما بعد الحداثة تفصل ما ارتبط وتفككه. وتبعاً لذلك ينبغي تحديد الثقافة من الآن فصاعداً من دون الرجوع الى تقدم العقلنة. جياني فاتيمو يقول ان التحولين الأهم لتحديد ما بعد الحداثة هما نهاية السيطرة الاوروبية على العالم، وتطور وسائل الاعلام والاتصال التي ساعدت على ظهور الثقافات المحلية، وأخيراً اختفاء الكونية التي كانت تعطي أهمية كبيرة للحركات الاجتماعية، ولم تعد للمجتمع اي وحدة وبالتالي ليس هناك خطاب يحتكر المعنى، وهو ما ادى الى تعددية ثقافية واختفاء الذات التاريخية. حددّ آلان تورين اربعة تيارات لفكر ما بعد الحداثة، كل منها يشكل قطيعة مع ايديولوجيا الحداثة وهي: أولاً، يتمثل فكر ما بعد الحداثة بالمجتمع الصناعي المتضخم الذي لا يكف عن التسارع ويطبع الانتاج والاستهلاك الثقافي. ثانياً، ان الحداثة اخترعت نماذج مضادة، اي مجتمعات تستدعي تحقيقها سلطة مطلقة، وهي نتيجة مباشرة لأزمة اليسار الثورية، التي تفككت بفعل الانتقال من النقد اليساري الى النقد ما بعد الحداثي للحركة اليسارية، ونفي ما هو اجتماعي. ثالثاً، القطيعة مع النزعة التاريخية من طريق تحطيم وحدة الثقافة وحلول التعددية الثقافية مكانها. ورابعاً، ان انفصال الاعمال الثقافية عن الاطار التاريخي الذي ظهرت فيه جعل «لسوق الفن» اهمية جديدة. فلم يعد الفن للنخبة والهواة، وأن تنتصر المؤسسة الانتاجية والاستهلاكية على الايروس والامة، اي انتصار الحركة وتغيير الوجود، ولم يعد الانسان امام العالم ويعيد انتاجه في صور، كما يرى هايدغر، وانما «اصبح الانسان في العالم» وهذا هو معنى التصريح لجان فرانسوا ليوتار حول نهاية السرديات الكبرى. غير ان يورغن هابرماس يرى ان الحداثة مشروع مستمر ولم يكتمل، نتج من التحولات التي حدثت في اوروبا منذ عصر النهضة وما رافقها من اصلاحات وتوسع في التجارة والصناعة والثروة العلمية والتقنية والمعرفية ومبادئ عصر التنوير، كاحترام العقل والتقدم الاجتماعي وحقوق الانسان، أما ما بعد الحداثة فهو مشروع تحرر فكري وعملي من مشروع الحداثة الذي لم يكتمل ويجب وضعه ضمن الاتجاه التشاؤمي الذي يعود في أصوله الى فلسفة نيتشه. ويمكننا ايجاز التحولات الجوهرية التي افرزتها الحداثة بالايمان بالانسان ومقدراته وبالعقل الذي هو مصدر تفوقه وتفرده وكذلك الايمان بالعالم الطبيعي، الذي علينا توجيه اذهاننا وجهودنا نحوه، لأنه ليس عالماً حقيراً وزائفاً. وأخيراً الايمان بالمجتمع بدل الدولة باعتباره مصدر السلطة، والذي انبثق عن التمييز المطلق بين الذات والموضوع. اذاً يمكننا التحدث عما بعد الحداثة كمرحلة او تيار او مشروع يتجاوز استخدامه المحيط الاكاديمي. وعلى رغم ان المفهوم ما زال في شكل او في آخر ضبابياً، لارتباطه بمفهوم الحداثة الذي ما زال ساري المفعول، والذي يريد ازاحته عن موقعه في التاريخ المعاصر، فإن دعاة ما بعد الحداثة، يشكون في قدرته على اختراق الوعي بالحداثة لعدم انعكاس مضامينه حتى بداية الألفية الثالثة في الواقع الاجتماعي المعيشي، ما عدا بعض المؤشرات التي اخذت تتجلى بين آونة وأخرى لدى بعض المفكرين. وعلى المرء ان يميز بين انتشار مفهوم ما بعد الحداثة وبين دقته واستخداماته المختلفة ومظاهر تحكمه، كما يظهر ذلك من تقاطع الاقتصاد بالجنس والنظام الرقمي (الديجيتل) بالثقافة والفلسفة بالسياسية. وليس كل ما يشاع صحيحاً من ان ما بعد الحداثة أمركة او فرنسة، بمقدار ما هي «عولمة» كما يشير الى ذلك ليوتار، لأن جذورها تمتد عميقاً في التاريخ. كما انها ليست من ابداع منظّري الفنون او الفلاسفة، بل هي ابداع لواقع الحياة المعاصرة، في عصر العلم والتقنية والثورة الفضائية وثورة الجينيوم والثورة الاتصالية الالكترونية التي نشأت كجواب على النزعة الليبرالية ومن ثم تفسيرها بمطالب وخلجات وتصورات ومشاكل التعددية الثقافية. ان ما بعد الحداثة لم تكشف هذه الوضعية وانما عكستها، لأنها لا تنظر الى الخارج، بل تبحث بنفسها في الزمن المعاش وتحدياته. تقوم ما بعد الحداثة على منطلقات عامة هي: اولاً - يمكن فهم ما بعد الحداثة كدستور للتعددية هدفه الدفاع عنها كمشروع مستقبلي لأنها ليست جزءاً من ظاهرة افقية عامة، وإنما هي آفاق مشرعة وأطر لها تماس بالارض ولكنها تخترق الآفاق، بقوة تأثيرها المتنوع في اطر التوقعات، ونفاذها الى جوهر العصر، لأنها تشكل جذوره... ولأنها عميقة الجذور فهي تعددية جذرية، على رغم ان التعددية كانت متضمنة في الحداثة، غير انها اصبحت اليوم دستوراً لما بعد الحداثة. ان ما بعد الحداثة هي مرحلة او تيار يعترف بالتعددية كدستور للمجتمعات بعد ان اصبح للتعددية معنى ونموذج ضروري للعمل وتصور ايجابي داخلي لا ينفصل عن المبادئ الديموقراطية. ثانياً - افرزت ما بعد الحداثة تجارب اساسية تعكس في الواقع تشكيلات علمية ومخططات حياتية ونماذج سلوك جديدة اثبتت اهمية معانيها. ولذلك لا يمكن النظر اليها من جوانبها الخارجية فقط. ثالثاً - التعددية هي خيارها في الوقوف امام التوتاليتارية (الشمولية) على اساس تجاربها مع حقوق الانسان وآلياتها، حيث تقف مع الاكثرية وضد أشكال السيطرة والتسلط القديمة والحديثة.