أثارت الأزمة السورية التركية، على خلفية إطلاق الجيش السوري قذائف إلى الأراضي التركية، زوبعة سياسية، توقع البعض أن تتحول إلى حرب إقليمية، لكن سرعان ما هدأت الأمور، وتبددت مخاوف الحرب. لكن ثمة دروسا مهمة من هذه الحادثة علينا الاستفادة منها في قراءة الأزمة السورية. لاشك أن التصعيد هو الذي بات يحكم علاقة تركيا مع النظام الأسدي، هذه العلاقة التي ما فتئت تزداد توترا منذ اندلاع الثورة السورية. فالمقدار الهائل من عنف النظام شكل ضغطا شديدا على علاقة حكومة أردوغان مع الأسد والتي كانت تتسم بالحرارة والود الكبيرين، لكن الأتراك لم يستطيعوا رغم محاولاتهم الحثيثة أن يتجنبوا التوتر المتصاعد في العلاقة. ومع تزايد العنف تعمق الحرج التركي من موقفهم الهلامي من الأزمة، وبدأت حينها تزداد حدة التصريحات التركية كاشفة مدى شعورهم بالإحباط، وخيبة الأمل من صديق الأمس، ولكن السياسة التركية المعروفة بحذرها ظلت تراوح بين تلميحات غامضة عن مدى دعمها لمطالب الشعب السوري، وبين تصريحات للمسؤولين الأتراك ذات الطابع التوصيفي لمدى عنف النظام. لكن النظام بعناده العجيب والمترافق بإجرام وعنف يتصاعد يوميا، شكل ضغطا وإحراجا للمجتمع الدولي وللأتراك، وأجبرهم على تصعيد موقفهم منه، رغم الرغبة الواضحة من الجميع بإصلاح النظام وليس استبداله لشهور طويلة من الأزمة. تلك الرغبة التي ساهمت وبشكل كبير في تعنت النظام؛ لما لمسه من ميوعة وتلكؤ المجتمع الدولي، ويبدو أن النظام أدرك وبذكاء يحسب له أن الأتراك وما أعلنوه من خطوط حمراء بدأت بحماة ولم تنته بحلب، سرعان ما سيغمضون عيونهم عن استخفاف الأسد بهذه الخطوط؛ بسبب تعقيدات المسألة السورية بالنسبة لهم. هذه التعقيدات تبدأ من طول الحدود المشتركة، مرورا بوجود عشرة ملايين علوي في تركيا، والقضية الكردية الساخنة أبدا. وصولا إلى مخاطر التوتر الحتمي والذي لايمكن توقع سقفه مع إيران وروسيا. هذا طبعا إذا انتقل الأتراك من القول إلى الفعل، وتدخلوا بشكل مباشر وعسكري في سورية. لكن النظام السوري بخبثه المعهود أدرك نقاط الضعف التركية تلك، بالإضافة إلى نقاط أخرى منها مثلا الشأن الداخلي التركي، وسعي أردوغان لحشد التأييد الشعبي لتعديلات دستورية سوف تعزز قبضة حزبه على السلطة والتي لا يمكن لأردوغان أن يفرط بها إكراما لسواد عيون الشعب السوري، وخصوصا بعد أن دخل حزب الشعب المعارض على خط الأزمة هذا الدخول للمعارضة أثار غضب أردوغان بشكل كبير والذي كان واضحا في تصريحاته الأخيرة، وبناء على ما سبق فإن التصعيد في الأزمة سوف لن يكون تركيا فقط كما يفترض البعض، بل سوف يكون متبادلا من الطرفين كل له أسبابه ومصالحه ومخاوفه. فالنظام السوري ولإدراكه العميق بأن الردود التركية وإن كانت عسكرية، لن تصل للحرب الشاملة للأسباب آنفة الذكر. سوف يستمر بالتحرش بتركيا بين الحين والآخر، وذلك ليثبت لأنصاره بأن لا خوف عليهم ولاهم يحزنون من حرب شاملة مع تركيا والتي ستعني حتما سقوط النظام، وليزيد في نفس الوقت من إحباط المعارضين الذين يعولون على تأزم مع تركيا يقود لحرب تقدم لهم سقوط النظام على طبق من ذهب.