بالنظر إلى تغيرات العصر المتسارعة التي أدت إلى تقدم وسائل الترفيه الاستهلاكي في مضمار السباق بينها وبين الكتاب المقروء، لا يسعنا إلا أن نتوقع ما يشبه انقراض القارئ الجاد خلال أعوام قليلة. ولأن القراءة هي أم الثقافة الأولى بلا منازع، فإن تقازم عدد المخلصين لها لابد وأن يؤدي إلى انقراض المثقف الحقيقي، صاحب المعرفة الغزيرة، والرؤية الثاقبة العميقة، خصوصا مع ما نلاحظه من وفيات متتابعة خلال العامين الأخيرين لكوكبة من نجوم الثقافة والمشتغلين على مشاريعها بإخلاص صادق. قد يمكن صناعة «خريج جامعي»، أو «موظف»، أو «مهني» في أي مجال من المجالات بشيء من التعليم والتدريب المحدود بزمن كافٍ، لكن من المستحيل صناعة «مثقف» ببرنامج مشابه؛ لأن الثقافة تتطلب بادئ ذي بدء شرطا يتربع على رأس شروطها، وهو «الشغف». الشغف بالكتاب وقراءته، والشغف بالمعرفة العميقة الشاملة، والشغف بكل ما هو لصيق بمفهوم الثقافة دون استثناء. وهو شغف قد يصل إلى «التضحية» الفعلية بالوقت، والمال، وعشرات متع الحياة الأخرى في سبيل الوصول إلى المعرفة المنشودة، أو إنجاز مشروع ثقافي قد يبدو لغير المثقفين من الناس أمرا غير ذي بال. كما أن الثقافة تتطلب وقتا طويلا من القراءة والبحث والتنقيب، وهو ما قد يتطلب عمرا كاملا لا يرضى إنفاقه إلا المتيمين بها دون سواهم. وما دمنا في عصر يقدم احتراما أكبر للعلوم التي تصنع المال، كالعلوم التكنولوجية والتجارية والترفيهية السهلة، وهو عصر يحول المثقف الأصيل إلى أحد اثنين: إما غريب لا يعرف عنه الناس شيئا، أو مجبر على الانسياق مع موجة الثقافة الخفيفة السطحية؛ كي يفهمه عامة الناس، وفي كلتا الحالتين نكون قد فقدنا «المثقف» بمعناه الذي عرفته العقود الماضية. Twitter @zainabahrani [email protected]