مهما تنوعت مصادر الثقافة وتطورت بتطور معطيات العصر، يبقى الكتاب هو الأب الأول للثقافة، والصانع الحقيقي لها، والمنبع الذي يستقي منه الفكر قوته، وتتزود منه المخيلة بمساحات جديدة لانطلاقتها، والمصدر الرئيسي لتغذية روح الإبداع والابتكار. فالكتاب لا يكتفي بتقديم الفكرة على طبق سريع ليستهلكها البصر بسطحية، بل يحرض الذهن على مناقشة ذاته ومراجعة أفكاره السابقة للخروج بوجهات نظر جديدة أكثر نضجا وعمقا، ومن هنا تكون بقية وسائل التثقيف الحقيقي مكملة للقراءة وليست بديلا يغني عنها. هذه الحقيقة تجعل من التوقعات المتصاعدة بانقراض عصر الكتاب الورقي، ثم انقراض عصر الكتاب المقروء بعدها بجميع أشكاله لتستولي التكنولوجيا المرئية والمسموعة على مكانه، وتحول وجوده إلى تاريخ، خبرا مزعجا لعشاق الثقافة الحقيقية ممن يعتبرون التجول بين صفحات الكتب سعادة ليس فوقها سعادة. يقول البعض أن «انقراض» الكتاب الورقي مجرد فكرة وهمية غير قابلة للتحقق، بينما يؤكد البعض أن الأعوام الخمسة المقبلة ستحسم النتيجة لصالح تكنولوجيا الصورة المتحركة في حربها الكاسحة ضد الكتب. أنا الأخرى أظن أن «تجارة التكنولوجيا الاستهلاكية» هي التي ستنتصر في مجتمعات الثقافة الكسولة والفكر المستهلِك، وسيصير هواة القراءة ممن يحتفظون بالكتب الدافئة في مكتباتهم نادرين، كندرة هواة جمع الطوابع البريدية في الألفية الثالثة. وكامتداد لهذه الكارثة الثقافية سنواجه أعاصير فنية وإبداعية تافهة، بدأت تباشيرها خلال الأعوام القليلة الماضية التي فتحت أبواب «الاستسهاك» في هذا المجال على مصاريعها، وصرنا نلاحظ قحطا شديدا في الأعمال السينمائية والمسرحية والتلفزيونية العربية الراقية، ونسمع شكاوى مستمرة عن افتقار الوطن العربي لكتاب النصوص الجيدين؛ لأن الإبداع الحقيقي في الكتابة يحتاج إلى تاريخ طويل من القراءة كي يقدم نفسه للمتلقي في إطار محبوك بإتقان. !!Article.extended.picture_caption!! Twitter @zainabahrani [email protected]