بعد سويعات ظريفة قضيتها خارج الزمان والمكان مع كتاب «البخلاء» لأبي عثمان الجاحظ؛ وجدت نفسي أتساءل: «هل كانت الصدفة وحدها السبب في شهرة هذا الكتاب وخلوده حتى اليوم؟ أم أن نباهة الجاحظ وروحه الذكية جعلته يخطط لتأليف كتاب طريف كهذا عن سبق إصرار وتصور، بغرض تحقيق انتشار أوسع لاسمه بين عامة الناس؟»، فنظرة على سيرة حياة هذا الرجل الاستثنائي بكل أحداثها الدرامية تؤكد عشقه الشديد للعلم والأدب وتعمقه في مختلف أوجه المعرفة، وأنه ألف خلال حياته عددا لا يحصى من الكتب التي تناولت قضايا الدين، والفلسفة، والأدب، والنقد، واللغة، والسياسة، وأخلاق الملوك، والتجارة، والصناعة، والتاريخ، والنبات، وغيرها، وجلها كتب رصينة تخوض في قضايا جادة ومواضيع دسمة، ما يجعل من كتاب «البخلاء» بحجمه الصغير، ولغته السهلة القريبة من لغة عامة الناس في عصر الدولة العباسية، وإن بدت صعبة على الأجيال الحديثة في عصرنا الحاضر، ومضمونه الفكاهي البسيط؛ حدثا استثنائيا يستحق الالتفات، ويضع رغبته في تحقيق انتشار أوسع لاسمه بين العامة من سكان البصرة وما حولها في ذلك الحين موضع ظن. إذ الغالبية العظمى من الناس يحبون سماع الحكايات، وتجذبهم الأخبار الطريفة الخفيفة، لكن قلة هم من يهتمون بالمؤلفات العميقة المتخصصة في شؤون قد لا يلتفت لها غير أهل العلم والثقافة. في عصرنا الحديث ما زال بعض الأدباء والمفكرين يخشى التطرق في مؤلفاته وكتاباته إلى مسائل عامة وقضايا واسعة الانتشار خشية أن يرجم بتهمة «السطحية» من بعض الأكاديميين الذين لا يصفقون لغير الكتابات المعقدة الشبيهة بألغاز مبهمة على القارئ العادي، فيخسرون بذلك فرصة الوصول إلى الناس بطريقة ذكية تشبه طريقة الجاحظ الذي أتقن قواعد اللعبة جيدا؛ فربح القراء، ولم يخسر سمعته. Twitter @zainabahrani [email protected]