تمر أيام وفاة المخرج التلفزيوني الشهير اسماعيل عبدالحافظ على أهله وأصدقائه وأحبائه باستمرار في الحزن على فقده، حيث اعتبروه أبا وأخا وصديقا كبيرا فقدوا بوفاته طيبته وإنسانيته. اسماعيل عبدالحافظ (توفي في 13 سبتمبر 2012م).. مخرج تلفزيوني شهير، أحد كبار رواد الدراما المصرية، من الرعيل الأول من المبدعين، أبرز مخرجي الجيل الثاني، ومؤسس المدرسة الواقعية في الدراما. جسد عبدالحافظ تراث مصر الأصيل بدراما مبدعة، في إدراك منه أنها (أي الدراما) ليست ترفيها بل مشروعا تنويريا وتثقيفيا، فابتعد بأعماله الدرامية عن المشاهد الفاضحة والألفاظ الخادشة، بل إنها تحمل فكرا مستنيرا ورسالة هادفة، ولذلك مازالت تلك الأعمال مثار اهتمام واعجاب الأسرة العربية. وكون عبدالحافظ رجل شديد الوطنية كما عرف عنه؛ حافظ على مبادئه ولم يتنازل يوما عنها بتقديم عمل لا يناقش قضية وطنية، وبحكم أنه ابن "طين مصر" فإنه خاض بأعماله التلفزيونية هموم المصريين وقضايا الفلاحين؛ فعرض بإتقان واقع الحارة الشعبية المصرية ورجالها «الجدعان»، المتميزة بالشهامة والحب والوطنية، وعبر عن الشخصية المصرية الحقيقية الأصيلة والفلاح المصري بكرم أخلاقه وإنسانيته، وقدم صورة لعلاقة الأسرة المصرية «الشعبية» و«الأرستقراطية»، ودرس هموم البسطاء والفقراء من الناس في الشارع المصري، فعاش صوتا للحارة المصرية بكل طوائفها اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا، حيث كانت أعماله الدرامية بمثابة تاريخ للمجتمع المصري أغنت عن الكتب في تشكيل وجدان وتراث وثقافة المواطن المصري. انطلقت البساطة والعمق في أعمال عبدالحافظ الدرامية من داخل المجتمع المصري البسيط، كونه مواطنا مصريا عاش حياته العامة والخاصة بسيطا وشعبيا. من أجل ذلك كله؛ أطلق الكثير من النقاد على إسماعيل عبدالحافظ لقب «مخرج الحارة المصرية»، مثلما أطلقوا من قبل على عميد الأدب العربي نجيب محفوظ لقب«كاتب الحارة المصرية»، ذلك هو إسماعيل عبدالحافظ الرجل القيمة الذي يعمل كثيرا ويتلكم قليلا فلا يقدم إلا قيمة. مبادئ وقيم ورث عبدالحافظ البساطة والقيمة والإنسانية من قريته الريفية «الخادمية» التي ولد بها (15 مارس 1941م) في مدينة كفر الشيخ، وعاش في أسرة ريفية متوسطة الحال، توفي والده وكان عمره خمسة أعوام (1946م)، فربته والدته (توفيت قبل شهور من تخرجه)، حيث اعتبرها نموذجا للمرأة المصرية التي تعطي كل ما تملك من أجل أبنائها، على الرغم من أن أقاربه حاولوا إقناعها بأن توقف تعليم أبنائها إشفاقا عليها، إلا أنها أصرت أن تعلمهم حتى لو اضطرت لبيع الأرض، ليتولى أبناؤها مناصب مرموقة بعد تخرجهم، منهم ابنها الأكبر «عبدالحليم» الذي ساعد والدته في تربية إخوته، خاصة أنه أحد رجال التربية والتعليم. وفي نظرة إلى تلك القيمة التي يحملها إسماعيل عبدالحافظ، فإنه جمع بين «الإنسانية» و«القيمة»، وكما كان نصير البسطاء دراميا فإنه كان مساعدا لهم بالمال واقعيا، فيخصص لبعضهم مساعدات مالية شهرية لا تنقطع؛ ففي أثناء تواجده في المستشفى قبل وفاته جاءت امرأة عجوز فقيرة ممن كان يقدم لهم المساعدة إلى المستشفى وأحضرت معها الظرف المخصص لها شهريا لتعيده له؛ لأنه حسب اعتقادها أكثر حاجة في الوقت الحالي منها، ولكن زوجة عبدالحافظ شكرتها وقالت لها بلهجتها الفلاحية«المبلغ ده طلع لله ولن يسترد». ومن خلق إسماعيل عبدالحافظ كما يرويها بعض المقربين منه؛ أنه كان يكرم الضيف يعرفه أم لم يعرفه، وأثناء الطعام كان يعطي ضيفه «لقيمات» من الطبق المخصص له. كما أن «الجلباب» الفلاحي لا يفارقه أثناء التصوير وبعض اللقاءات الخاصة، وهو بذلك يعبر عن محافظته لعادات وتقاليد قريته الريفية التي ولد فيها، فكان نموذجا للشخصية الريفية الذي يحمل صفات الحب والوفاء والكرم والشهامة والصدق والإخلاص، فعاش «مخرج الروائع» و«عمدة الدراما» بسيطا بدرجة «مبدع». مع ما يمتلكه عبدالحافظ من شهرة عربية كبيرة، إلا أنه كان يملك مقومات الشخصية الطيبة المتواضعة، التي تحمل شهامة الفلاح المصري البسيط، فكان بلباسة الفلاحي، وشعره الأبيض، وسيارته العتيقة (فيات 25)، وهاتفه المحمول ذو الموديل القديم، يتصف بفكر مستنير، وفن راق، ويتمتع بالسماحة، والإنسانية، والكرم، والكلمة الصادقة، والقرب من البسطاء في الشارع. عبدالحافظ في بيته بدأ عبدالحافظ حياته بعد زواجه من «أم محمد» في شقة متواضعة في حي العمرانية بالقاهرة، وعقب أنجابه أبنائه الثلاثة؛ انتقل للسكن في شقة رقم 18 بشارع عبدالمجيد بدوي، وجعل شقته القديمة مركزا لاستقبال محبيه ورواده ومكتبا لأعماله وبجواره حجرة صغيرة للاستراحة. ويعرف محبي عبدالحافظ من مرتاديه جيدا، حجرة مكتبه المثلثة الشكل التي لا تتعدى مساحتها 12 مترا، وتحمل في أحد جدرانها لوحة زيتية لصورته رسمها له أحد الفنانين التشكيليين من أصدقائه وأهداها له، تلك الحجرة التي تقع في شقته القديمة في شارع رقم 15 بشارع خاتم المرسلين في حي العمرانية (قريبة من شقته الجديدة). وجاء عبدالحافظ من قريته الريفية إلى القاهرة ب«الجلابية»، وكان تعرف في محافظته «كفر الشيخ» على زوجته الحاجة «أم أحمد» (كما كان يحب أن يطلق عليها)، المولدة في مدينة «دسوق» في كفر الشيخ، فجمع الله بينهما البساطة والحب والرحمة والمودة بينهما، فضلا عن الحديث بلهجة الريف مثل كل الفلاحين، فأنجبا أبناؤهما الثلاثة «محمد» و«صفاء» و«لمياء»، وعاشوا جمعيا في بيت يرفل بالحب والتعاون والإيثار. التوأم الذهبي ارتبط المشوار الإخراجي لعبدالحافظ منذ الستينات بصديقه ورفيق دربه الكاتب الراحل أسامة أنور عكاشة (توفي 2010م)، حيث ربطتهما صداقة وطيدة منذ مرحلة المراهقة، درسا سويا وتخرجا سويا، وقبل أن يكون عكاشة وعبدالحافظ ثنائيا دراميا مبدعا، شكلا حالة خاصة للدراما المصرية التي تؤرخ لتاريخ مصر والمصريين، فهما يتشابهان في ظروف الحياة المختلفة، حيث عانيا من نفس المرض وماتا في ظروف واحدة، وكأنها توأمين انفصلا بوفاة أحدهما قبل الآخر. وانطلقت أعمال عكاشة وعبدالحافظ (مؤلف ومخرج) كضلعين في صناعة الدراما المصرية والعربية يصعب منافستهما، وشكلا تؤاما دراميا قل أن يتكرر، فأنتجا أعمالا كبيرة ناجحة ومتميزة للدراما العربية، أكدا فيها أن نجاح الدراما تبدأ بالكاتب والمخرج أولا وليس ب«النجم». بدأ لقاء الصديقين سويا عام 1977م بمسلسل «أسوار الحب»، ثم بعده بستة أعوام (1983م) قدما أول نجاح حقيقي لهما في مسلسل «الشهد والدموع» في جزئيين (يعد مرجعية للجيل الثاني من المخرجين)، وفيما بين الأعوام (1987 إلى 1989م) قدما الأجزاء الثلاثة الأولى من مسلسل«ليالي الحلمية» ليعيدان إنتاجه مرة أخرى بعد سنوات (عام 1995م) فيقدما جزئيه الرابع والخامس، لتنتهي مسيرة الفيلم الأسطورة الأشهر في تاريخ الدراما المصرية والعربية، وبذلك يكون عبدالحافظ أو مخرج عربي يدخل «المسلسلات الأجزاء» في الأعمال الدرامية العربية. أحلام إنسان لم تنته العلاقة العملية بين الصديقين بانتهاء مسلسل «ليالي الحلمية»، خاصة أن روحهما الواحدة جعلت منها ثنائي ذهبي جمع الصداقة بالعمل، فبعد انقطاع عملي بينهما لعدة أعوام، قدما مجموعة أخرى من الأعمال الدارمية، منها: أهالينا، امرأة في زمن الحب، المصراوية (جزأين)، لينقطع الثنائي الروحي عن بعضهما بوفاة الأول. وكان «المصراوية» أحد أحلام عبدالحافظ الكبيرة التي تحققت، خاصة أن أحداثه دارت في قرية «سيدي غازي» في كفر الشيخ المنتمي إليها، تلك القرية التي تعرف بانتشار «الفتوات»والتفاوت الطبقي. وعاش عبدالحافظ حلما آخر في مسلسله «أكتوبر الآخر» الذي دعا فيه إلى الثورة فتحقق له الحلم بمعايشته الثورة قبل وفاته، وكانت له أحلام لأعمال درامية كبيرة، حقق البعض منها ولم يحقق الآخر، وحالت وفاته دون تحقيق حمله الأكبر؛ وهو إخراج مسلسل «همس الجذور» للكاتب يسري الجندي، الذي يتحدث عن المشكلات الأساسية للفلاح المصري البسيط. أعمال ثرية في فترة الانقطاع العملي بين الصديقين عكاشة وعبدالحافظ؛ أخرج الثاني مسلسل «الوسية» (عام 1994م) في تعاون مع المخرجين يحيى العلمي ومحمد فاضل، و«العائلة» الذي يفند ظاهرة الإرهاب المتفشية في ذلك الوقت من تأليف وحيد حامد، و«خالتي صفية والدير» للكاتب بهاء طاهر، والملحمة الغنائية الشعبية «جهورية زفتي» (عام 1988م) المستمدة من واقع التاريخ المصري، و«سامحني ما كانش قصدي» عام (2000م) الذي يعد أول عمل مصري يتناول العولمة والسيطرة الأمريكية على العالم، و«وجع البعاد» للكاتب يوسف القعيد الذي يعود فيه عبدالحافظ إلى الريف المصري، ثم «البر الغربي» بطولة رفيق رحلته الفنية الممثل صلاح السعدني، اللذان يعودان إلى أحلامهما وآمالهما وأعماق جيلهما في الستينيات بمسلسل «الأصدقاء». التلفزيون أولا عندما احتل عبدالحافظ المرتبة الأولى في دفعته مع مرتبة الشرف عند تخرجه من قسم اللغات الشرقية في كلية آداب جامعة عين شمس (1963م)، رفض ترشيحه بأن يكون معيدا في الكلية متمردا بحكمة ورؤية على تلك الوظيفة، وبحكم أنه الأول على دفعته رشح للعمل في«قسم الأخبار» في الإذاعة والتلفزيون. كان أمل عبدالحافظ أن يكون داخل قسم«مراقبة التمثيليات»، ولكنه عين في قسم«مراقبة برامج الأطفال» (1964م) ليعمل في دبلجة أفلام الأطفال التي تأتي الخارج، ومع ذلك كانت عينا عبدالحافظ متجهتين إلى الدراما التلفزيونية، لينتقل بعد عام واحد في قسم«مراقبة الأطفال» إلى قسم مراقبة التمثيليات (1965م) مع المخرج أحمد عثمان، حيث يؤكد عبدالحافظ أنه كان صاحب الفضل الأول عليه داخل هذا المجال، وطلب منه إخراج أعمالا خاصة له رغم أنه كان قبل انتقاله إلى«قسم التمثيليات» قد بدأ الإخراج مساعدا له في إخراج سهرة بعنوان«سوارس عم سيد» التي اعتبرت من أهم المسلسلات التي قدمها التلفزيون طوال تاريخ الدرامي، كما عمل مساعدا للمخرج عمر بدر الدين في إخراج مسلسلات «المنبوذ» و«إسماعيل ياسين دكتور» و«الكفر الجديد»، وساعد المخرج فائز حجاب (كان وقتها من أشهر مخرجي التلفزيون). ثراء درامي انطلق عبدالحافظ بعد إخراج السهرات التلفزيونية إلى إخراج المسلسلات، فأخرج في البداية مسلسل «الناس والفلوس» الذي نال شعبية كبيرة، حيث كان حلقات متصلة منفصلة تتناول السلبيات في حياة أسرة بسيطة تعيش في حي شعبي، ليقدم بعدها عدة سهرات من تأليف جلال الغزالي مثل «الناس والوحش» و«ربما»، ثم في العام 1981م المسلسل التاريخي «خيول النصر»، بعدها المسلسل الإذاعي «أبناء العطش»عام 1982م. واستمر عبدالحافظ في تحقيق رسالته الإبداعية، فتوفي وقد أثرى المكتبة الدرامية العربية 30 عملا من أهم وأروع الأعمال التليفزيونية؛ أبرزها: عفاريت السيالة، حدائق الشيطان، شارع الماوردي، عدى النهار، نقطة نظام، كناريا وشركاه، للثروة حسابات أخرى، الموج والصخر، ضد التيار، والعائلة. البطولة للجميع كان لعبدالحافظ نظرة خاصة في إخراجه لمسلسلاته، فابتعد بأعماله التلفزيونية عن مصطلح «البطولة للجميع»، حيث لا يوجد في قاموس مسلسلاته مصطلح «النجم الأوحد»، وكان يعتمد على الإبقاء على التواصل بين الجيلين من الممثلين، ليكتشف بذلك الكثير من المواهب الذين أصبحوا فيما بعد نجوما مشهورين، الذين وظف إمكانياتهم ومواهبهم وجعلهم يصادقون أدوراهم بمحبة، فكان لهم الأستاذ والإنسان معا. أما آخر أعمال عبدالحافظ فهو مسلسل «ابن ليل» (2012م) الذي يدور في أجواء صعيدية في قرية «النجدية» في محافظ قنا، ولكن التلفزيون ظلمه من حيث مكان وتوقيت عرضه، فعرض على قناة الأسرة والطفل الساعة 12 ليلا، ولم تسع الشركة المنتجة إلى تسويقه بالفضائيات، وفوق ذلك كله لم يبد عبدالحافظ أية اعتراض. والعجيب، أن عبدالحافظ عند تصوير مسلسل «ابن ليل» (عرض في رمضان 1433ه) كأنه يقاوم الموت لينتهي من إخراج المسلسل، حيث كان يعمل لما يقرب من 17 ساعة متواصلة يوميا، وينام أربع ساعات فقط، وبعد انتهاء عرضه بأيام غادر الحياة إلى الدار الآخرة، وذلك دليل على حبه للعمل المتقن، خاصة أنه كان يوصي أبناءه ومن يعمل معه بمقولته الشهيرة:«حب المهنة تحبك، أدي عملك يديك، وتعيش طول عمرك مرفوع الرأس». العودة للخادمية في الأسابيع الأخيرة من حياته لزم المخرج المبدع اسماعيل عبدالحافظ «السرير الأبيض» في أحد مستشفيات القاهرة بعد إصابته بأزمة صحية حادة إثر إصابته ب «التهاب رئوي»، مما اضطر أطباءه وأسرته إلى قرار سفره إلى فرنسا للعلاج هناك، ولم يمكث يومين حتى وفاته المنية (الخميس: 13 سبتمبر 2012) عن 71 عاما، موصيا بدفه في قريته «الخادمية» في كفر الشيخ، وطلب من أبنائه دفنه والرجوع لأعماله سريعا، والدعوة له على الدوام بالرحمة وألا ينسوه بعد مماته. وكأن مرض ووفاة عبدالحافظ كان عملا دراميا، حيث خرج من إرهاق شديد بعد جهد متواصل لتصوير مسلسله الأخير «ابن ليل»، ليدخل عقبها المستشفى مرتين، ثم يسافر للعلاج في فرنسا ولم يمكث إلا يومين حتى يغادر الحياة ويعود إلى بلاده محمولا على الأكتاف. ولعل وصيته بدفنه في مسقط رأسه «الخادمية» دليل أصالة ذلك الرجل الكبير في نظر الناس البسيط عند نفسه، في رغبة للعودة إلى للأصل الفلاحي، وهكذا عاش اسماعيل عبدالحافظ بسيطا ومات بسيطا، فقد رحل الجسد وبقي العمل.