تحت شمس مكة الحارقة، يجلس على طاولة صغيرة من خشب يتظلل بقايا شجرة هرمت وهي تقاوم الريح ربع قرن من الزمن ، يبري قلمه الرصاص وهو يرمق المارة بنظرات تتخللها البسمة ، يقلب حينا في ظروف بريدية على الطاولة ويمسك بقلمه حينا آخر ليسطر رسالة يصوغ كلماتها من بنات فكره فهو يؤمن لقمة عيشه من خلال «ملكة التعبير» حيث يخطف رزقه من بين حروف الرسائل الورقية. ذلك الرجل الأربعيني عبدالله بن أحمد الزهراني الذي عرف منذ 26 عاما بكاتب ضبط الغزة كما يحلو لزبائنه تسميته ، بعد أن امتهن كتابة الرسائل البريدية منذ أزل واتخذ من الرصيف المجاور للبريد المركزي في الغزة مكتبا له في الهواء الطليق. يجلس يوميا منذ ساعات الفجر الأولى بعد أن يؤدي فريضة الصلاة في المسجد الحرام ، فيرابط على مكتبه المتواضع حتى ساعات العصر ، التقته «عكاظ» وكان الكاتب الوحيد الذي لا يزال متشبثا بالمهنة بعد أن هجرها كل زملائه مع ثورة التقنية ودخول وسائل تواصل الكترونية. الزهراني الذي باح ل«عكاظ» خفايا مهنته وأسرار تعلقه بها بدأ حديثه بالقول: «لن أترك كتابة الرسائل فهي حياتي، أجد ذاتي مع كل حرف أخطه، أفرح مع كل بسمة أرسمها على محيا معتمر أو معتمرة ترجمت أحاسيسهم في رسائل بريدية طار بها البريد صوب ديارهم، ربما يظن البعض أن البرقيات، الواتساب، الفيسبوك والتويتر ستلغي وجودي لكن هيهات ، فكل هذا الوسائل بالرغم من حداثتها لكنها لم ولن تلغي وجودي هنا، لا يزال الناس يفدون الي لترجمة أحاسيسهم ومشاعرهم ، لا يزال الناس يؤمنون بأهمية الرسائل البريدية». يسهب الزهراني في حديثه وهو يسطر كلمات لزبائنه الذين تحلقوا حوله فيقول: «كما ترون الزبائن يمرون من هنا كل ساعة، لا يمكنني الافصاح عن معدل ثابت عن الدخل اليومي لكنه في تفاوت بين 100 ريال الى 250 ريالا، والبضاعة ظروف وشيء من ملكة التعبير وبنات الأفكار التي أصوغ بها هموم الناس في رسائل ورقية. ليس هذا فحسب كل ما لدي بل البعض من الزبائن يأتي الي لتعبئة نموذج ما لأي جهة حكومية يرغب مراجعتها ولدي كل النماذج في حقيبتي الخاصة». وحول أشهر الرسائل التي خطتها يمناه خلال الربع قرن التي أمضاها في الكتابة قال الزهراني: «ليس كل ما أكتبه أفصح به لكم وللناس ، أنا مؤتمن على أسرار الناس ، لكني كتبت لكل الطبقات ، للأغنياء والفقراء للدعاة والفنانين وللرجال والنساء ، كتبت خطابات العزاء وخطابات التهاني ، كتبت استقالات مديرين وكتبت أوراق الطلاق ، كل ما يدور في الذهن كتبت عنه في هذا الموقع الذي أمضيت به 26 عاما وكل خوفي أن يزال البريد المركزي عندها سأبحث عن موقع بديل لكن لن أترك الكتابة وسأقهر عشاق التقنية والوسائط المتعددة».