النزعة الإنسانية التي اكتسبت مديحا واسعا في ساحة الثقافة الأوروبية، لم تبق بهذا المنحى على طول الخط، فبعد هذا المديح الذي دام طويلا، انقلبت الصورة، وتعرضت هذه النزعة لنقد شديد بقي مستمرا ولم يتوقف. وإذا كانت هذه النزعة، ككل النزعات والأفكار الأخرى التي لم تسلم من النقد في المجال الأوروبي، إلا أن هذه النزعة كان من الحتمي تعرضها للنقد والنقد الشديد، مع التوقف عن سيل المديح والتبجيل السابق. هذا النقد ظهر وعرف تقريبا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وارتفعت وتيرته واشتدت بأعلى درجاته خلال النصف الأول من القرن العشرين، وبقي مستمرا طيلة القرن الماضي، ولم يتوقف حتى بعد الولوج إلى القرن الحادي والعشرين، ويبدو أنه لن يتوقف وسيبقى على طول الخط، وذلك لأسباب لها علاقة بداخل المجتمع الغربي من جهة، ولأسباب أخرى لها علاقة بسلوكيات الغرب مع بقية العالم من جهة أخرى. وقد تعددت مصادر ومداخل هذا النقد، واتجاهاته وأنماطه، وتنوعت بيئاته وأمكنته وأزمنته، وفي هذا النطاق يمكن الإشارة إلى النمط الأول من النقد والذي يتحدد في الأبعاد النظرية والمفاهيمية العامة، وسوف ننتخب ما أشار إليه الباحث الأمريكي كرين برينتون في كتابه (تشكيل العقل الحديث)، الصادر بالإنجليزية سنة 1953م، وهذا يعني أن هذا النقد ينتمي إلى مطلع النصف الثاني من القرن العشرين. القسم الأول في هذا الكتاب، خصصه المؤلف للحديث عن ما أسماه الحركة الإنسانية، وعند النظر في هذا القسم، يمكن ضبط وتحديد الملاحظات النقدية للمؤلف على هذه الحركة، في النقاط الآتية: أولا: يرى برينتون أن النزعة الإنسانية هي مصطلح له استعمالات فضفاضة جدا، ومحدودة جدا، على نحو لا يتلاءم مع مؤرخ الفكر، وهذا ما يتضح خاصة اليوم في خمسينيات القرن العشرين، إذ يمكن أن يكون نصير الدعوة الإنسانية رجل دين يسعى لغرس دعوته دون التزام ديني محدد، أو مصلحا تعليميا يرى أننا أفرطنا في الإقبال على العلوم الطبيعية ونهلنا منها الكثير بينما قصرنا عن حاجتنا من الإنسانيات. ثانيا: يعتقد برينتون أن النزعة الإنسانية هي أشبه بعباءة تطوي تحتها كل من كانت له نظرة إلى العالم لا هي لاهوتية أساسا، ولا هي عقلانية في المقام الأول، وحسب هذا الاستعمال لن يكون ضروريا على الإطلاق النظر إلى النزعة الإنسانية باعتبارها موقعا وسطا بين غيبيات الدين وبين العلوم الطبيعية، هذا على الرغم من أن النزعة الإنسانية كانت في حالات كثيرة تمثل هذا الموقع الوسط. ثالثا: يعتبر الداعية إلى النزعة الإنسانية حسب قول برينتون متمردا ضد نظرة العصور الوسطى إلى الكون، دون أن تكون له نظرة واضحة خاصة به عن الكون، وهو أيضا نصير هام للنزعة الفردية إنه يريد أن يكون ذاته، بيد أنه غير واضح تماما بشأن ما يريد هو أن يفعله بذاته وكيف يصوغها، وهو مثقل بدينه للعصور الوسطى أكثر مما يقر ويعترف، خاصة فيما يفاخر به عن نفسه. رابعا: في نظر برينتون أن الحركة الإنسانية هي موقف من الحياة، لا يتسق في جوهره مع جانب الديمقراطية الذي يعنى بالإنسان العادي وبرفاهة الجماهير، فقد كان فنان أو أديب عصر النهضة يؤمن بطبقة متميزة، ليست هي طبقة النبلاء الإقطاعية القديمة، بل الطبقة المتميزة الجديدة من ذوي الموهبة والفكر، وكان لا يعنيه كذلك، بل لعله كان يزدري الكثرة غير المتميزة التي لا تعبأ بالفن أو الفلسفة أو العيش الكريم. خامسا: يذهب برينتون إلى أن النزعة الإنسانية تتخذ من الكائن البشري الكامل معيارا لها، وبنوع من التبسيط حسب قول برينتون فإن شعار دعاة النزعة الإنسانية قد يكون لا الإنسان الكامل ولا الإنسان الأدنى، وحسب هذه النزعة فإن الإنسان يمكن أن يكون معيارا لكل شيء، لكنه في نظر برينتون ليس معيار قياس دقيق محكم. والحكمة التي ينتهي إليها برينتون هي (إننا لا نزال نفتقر بداخلنا إلى إنسانيين على نحو أقل مما تحدثنا به الكتب). [email protected] للتواصل أرسل رسالة نصية sms إلى 88548 الاتصالات أو 636250 موبايلي أو 737701 زين تبدأ بالرمز 115 مسافة ثم الرسالة