للكتابة طقوس تشبه في بعض أطوارها أحوال العجائبية الملغزة، ونحن، هنا، لا نريد أن نتساءل: أين تكون الكتابة قبل أن يفرغ ألفاظها الكاتب على القرطاس، أو يرقنها على شاشة الحاسوب، بتعبير عصري؟... فلذلك حديث آخر لما يحن حينه... وإنما الذي نود معالجته في هذا العمود، اليوم، للقراء الأكارم هو: أي الأوقات أفضل للكتابة الأدبية؟ ويبدو أن أجدادنا الأدباء أحسن الله إليهم نبِهوا لهذه المسألة اللطيفة، فتناولوها من وجهات نظر مختلفة لعل أول من جاء ذلك منهم ابن قتيبة، ثم خلف من بعده خلف من النقّاد لم يفتهم تكرار ما قال صاحب «الشعر والشعراء»، ومنهم ابن رشيق المسيلي الميلاد، القيرواني الدار في «عمدته»، وابن خلدون في «مقدمته». ويفهم من بعض تلك الكتابات عن طقوس الإبداع أن القدماء كانوا يؤثرون أن يكتبوا بالأسحار، حيث الذاكرة أنقى، والقريحة أنشط كما قال ذلك نزيل المدينةالمنورة، سابقا، الأديب الجزائري محمد البشير الإبراهيمي. ولا يزال كثير من الكتاب، ممن أعرفهم في المشرق والمغرب، يؤثِرون الكتابة الأدبية مع الفجر فعلا. غير أن كثيرا منهم لا يكتب في تلك الساعة العجائبية التي يسهل فيها الإلهام، بل تراهم يكتبون أثناء القيلولة، وفي المساء، وفي الليل قبل منتصفِه، ومنهم كاتب هذه الأسطار. وقد علمت من بعض الكتاب المعاصرين أنهم لا يكتبون إلا وقدح من الشاي أو فنجان من القهوة أو شيء آخر من غير المسلمين على يمينهم، وإلا لما كتبوا سطرا واحدا. وقد أخبرني كاتب جزائري أنه كان يكتب بالآلة الكاتبة في مكانٍ جميل من بيته، بحيث كان يطل وهو جالس إلى مكتبه الصغير على غابة خضراء وبحر هادر، فلما انتقل إلى سكن آخر، أفضل من الأول، وجاء يكتب، بعد أن غير المكان، ولم يعد يرى لا غابة ولا بحرا، أصيبت قريحته بالعقم، فلم يستطع كتابة شيء! وظل على ذلك ستة أشهر على الأقل، يراود الكتابة عن نفسها فلا تأتيه، لأنه غير لها مكانها الذي ألفته أن تأتيه فيه زمنا طويلا. وليس ذلك غريبا بعد أن قال الفرزدق: «تمر علي الساعة وقلع ضرس من أضراسي أهون علي من عملِ بيتٍ من الشعر»! وإذا تمادت تلك الحال لدى الكاتب أو الشاعر قيل: «أصفَ وأفصى» معا، وأتوا بذلك من إصفاء الدجاجة إذا انقطع بيضها، كما يقرر ذلك أبو علي الحسن بن رشيق في عمدته. إن كتابة الإبداع عجيبة من العجائبيات، ولذلك ترتبط بطقوس تشبه طقوس الكهان في الزمن القديم.