كنا نحن أبناء جيل التعامل مع الإبداع منذ ستينيات وسبعينيات القرن الماضي وأكاد أجزم أنه وبدرجة كبيرة أفضل بكثير من هؤلاء الذين تبعونا فيما بعد في الاستفادة من التعرف على أوجه جلية وخافية عند عظماء الفن العربي أبناء النصف الأول من القرن العشرين الذين لم يعيشوا حياة الترف المادي رغم أنهم صانعو الترف الثقافي والإبداعي في حياتنا الذي لا زال يعطر ذائقتنا المستوعبة لكل جميل وهم كثر بلا شك مثال ذلك محمد القصبجي ورياض السنباطي وزكريا أحمد ومحمد عبدالوهاب وأم كلثوم وعبدالوهاب محمد وحسين السيد ومحمد حمزة وكامل الشناوي وغيرهم، ومنهم محمود بيرم التونسي ذلك الصحافي والكاتب والشاعر الجميل الذي ارتبطت سمعته واسمه بإصداره مجلة «البعكوكة» التي كانت تقريبا أهم وأشهر مجلة كاريكاتير وقراءة ساخرة حول كل ما هو محيط بالحياة العامة، هذا الشاعر الكبير .. شاعر العامية الذي ارتبط كثيرا بتاريخ المطربة الكبيرة وكوكب الشرق أم كلثوم وشارك في صناعة مجدها الفني الكبير بعاميته ولونه الشعبي في الكتابة الذي ما إن أذاعة حتى كانت كل مصر تردده مع أم كلثوم أو غيرها وكان نجاحه في عاميته هو ما أجبر طه حسين على قوله «أخشى على اللغة العربية من بيرم»، ولأن الإبداع مقترن في الغالب بالجنون أو التهور أو عدم الاكتراث على الأقل كان كذلك هذا الإسكندراني الجميل في شعره وحياته الأدبية فما لبث أن أساء للملك فاروق في حال اجتماعي ما .. في «بعكوكته» حتى طورد وطولب ليهرب إلى تونس بحرا من الإسكندرية وكان أيضا مطاردا أو مطلوبا من السلطات هناك في تونس فظل يعيش في البحر والسفن المغادرة والآتية إلى أن استقر به المقام في جنوبفرنسا ليعمل «حمالا لعفش المسافرين» في الموانئ هناك وظل يواصل التعامل مع الكثير من الفنانين في مصر وعلى رأسهم أم كلثوم إلى أن سنحت سانحة عودته إلى مصر من خلال زيارة للملك فاروق إلى باريس فشد رحاله إليها من الجنوب ليحمل لافتة على صدره كتب عليها «أنا مصري مظلوم» ليقف بها أمام السفارة المصرية في باريس متظاهرا وعارضا حاله في محاولة لإنهاء حياة الصرمحة والضياع «قولة إخواننا الفلسطينيين»، ليطلبه السفير المصري ويحاول مساعدته. فنصحه بكتابة نص أو أغنية في الملك فاروق خلال زيارته باريس ففعل، حيث كتب «حبيبي يسعد أوقاته ع الجمال سلطان .. ولما يهل هلاله تنعاد الأعياد .. والليلة عيد ياعيني ع الدنيا سعيد» والتي شدت بها أم كلثوم فيما بعد بحضور فاروق وعاد بيرم التونسي إلى مصر ليواصل إبداعاته التي كان منها «بساط الريح» التي لحنها فريد الأطرش وشدا بها غناء مع الراحلة عصمت عبدالعليم، وهذه عزيزي القارئ كانت إحدى استفاداتي من أمسية جمعتني قبل أيام بمحمد عبده ونحن نزور الموسيقار غازي علي وهما يتجولان بذاكرتيهما على أو في تاريخ العظام من «وسط الإبداع العربي». فاصلة لبيرم التونسي: تونس أيا خضرا ياحارقة الأكباد غزلانك البيضا تصعب على الصياد غزلان في المرسى . . وإلا في حلق الواد على الشطوط تعوم بساط الريح قوام يا جميل أنا مشتاق لوادي النيل أنا لفيت كثير ولقيت البعد علي يا مصر طويل