تكاد تناوشني آيادي التائبين في زحمة أنفاس.. في خلد رحمة ومغفرة وعتق من النار.. هناك تتكسر مجاديف الخوف والظمأ والجوع كالتراتيل الإيمانية على جبين أبي.. وتلك الابتهالات الحانية في راحتي أمي.. صمت اللحظة يفرغ في أولى طلقات الرصاصات الحمراء بعد مغرب شعبان الأخير وإيذانا بأولى ليالي رمضان.. كلاب هاربة.. وقطة تتحاشى السائرين.. سيل من التبريكات.. مدن وقرى.. هجر نائمة وبقايا ذكريات تستلقي على ساحل كفين وارفة بالتجاعيد تحمل ترسا محملا بإفطار مغرب غرة رمضان.. عهود ضامئة، وعطش سنين مهاجرة، وأفواه صائمة يابسة ترتوي بماء قريتي الصائمة بالنهار.. القائمة بالليل..!! وما زلت أسترق نظرة شوق لبيت الله الحرام في عيون مسافرٍ خلد رحلته طريق الساحل، وقهوة الجبل.. وألعاب يقال إنها من مكة قد قدمت.. حكاية قلوب وكبود أضناها طول النهار بحثا عن خبزٍ يابسٍ أو ماء آسن يسد جوع من تراب ولهث من سراب.. هناك ترتشف البساطة كل الوجوه.. كل القلوب، وما زالت رواية التجاعيد التقية النقية خلسة في جوف السحر.. بعد النظر يسير بي على صوت مؤذننا العتيق يجترني في كل جنبات المكان ويسقط الشفق غروبه على تلك الجبال الخاشعة، وهي تردد أصوات المؤذنين وبقي صوت مؤذننا أثرا بعد عين وحسا نتلمسه حين تطول بنا المسافات، ولا نسمعه.. كأني قد أستأنست برمضان ضيفا زائرا كريما.. يستجمع شيوخ قريتي على حصير واحد من حب وجمال.. لا صخب فيه ولاملل.. بينهم سائل صدقة وعابر سبيل وغريب هاجرت به أحلامه بحثا عن لقمة عيش حلال.. قد ساقتهم الدنيا صدفة أورحمة بنا.. هناك يستوقفني غروب رمضان الأول ودعاء القانتين: «اللهم اجعلنا من صوامه وقوامه» شياطين تصفد وأبواب جنة تفتح.. وباب يقال له الريان لا يدخله إلا الصائمون، هناك مسجد قريتي العتيق.. وخطوات الصائمين في ثنايا طفولة حالمة ترسم هلال رمضان.. لتبوح به حكايات وروايات تقطن في حلم أذان المغرب.. الراحلين.. الفقراء.. المرضى.. المعوزين ساعة اختزال ومخاض تأمل في كتابة حرف يحبو على عتبات رمضان..!! ومضة صائمة: اليوم يجتمع العالم الإسلامي على سفرة واحدة.. وقلب واحد .. يا لعظمة هذا الدين..!!