رغم ما يؤكده المسؤولون اللبنانيون عن أن الوضع في لبنان مطمئن، وأن لا شيء فيه يدعو للقلق، إلا أن الواقع يصور مشهدا مغايرا تماما، بين مساجد دمرت واجهاتها القاذفات، ومنازل اتشحت بسواد النار، ومركبات صغيرة تغازلها المدرعات على الشوارع.. في وقت تسمع فيه صوت قارئ القرآن يصدح في أكثر من حي، فإن سألت قالوا «عزاء أحد الشهداء الذين قضوا في أحداث طرابلس». أكثر ما لفت انتباهي في جولتي من بيروت إلى طرابلس تعاقب النداءات إلى خادم الحرمين الشريفين على طول الطريق، فعند مدخل باب التبانة في طرابلس، وبجانب وحدة للجيش، انتصبت لوحة «نناشد خادم الحرمين الشريفين، أن يبادر بإغاثة أهالي باب التبانة»، وفي عمق العاصمة بيروت، وعند ضريح رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري كانت العبارة «نم قرير العين يا رفيق.. فالفؤاد بين أضلعنا، والسعد في أعيننا، وعبدالله بعد الله يرعانا». هذا المشهد دعاني لأن أطرح سؤالا «لماذا يناشد اللبنانيون خادم الحرمين بصورة أكثر تحديدا؟» وجهت هذا السؤال إلى ستة أشخاص. اثنين على هرم السلطة، وسياسيين بارزين، والآخرين من أوساط الشعب، فكان الجواب الأول من رئيس مجلس النواب نبيه بري «هذا ليس بغريب، فقد تعودنا من خادم الحرمين حرصه على لبنان ومستقبله»، وفي المقابل جاء جواب رئيس مجلس الوزراء نجيب ميقاتي «إن مواقف خادم الحرمين العملية ترجمت وقوفه بجانب لبنان في أصعب الظروف، معنويا وماديا، فهو حريص على لبنان ووحدته واستقراره وسلامته». وبعيدا عن السلطتين التشريعية والتنفيذية، أجاب الرئيس التنفيذي للقوات اللبنانية سمير جعجع على هذا السؤال قائلا «إن خادم الحرمين حريص على واقع لبنان ومستقبله، وخير دليل على ذلك موقفه تجاه الأحداث الأخيرة، وطلبه من الرئيس اللبناني التدخل بكل قوة، بعد أن بدا قلق الملك عبدالله من إدخال لبنان في المجهول والدخول في الحرب الأهلية»، وكانت إجابة النائب في كتلة المستقبل نهاد المشنوق «خادم الحرمين الشريفين يكن كل خير للبنان وشعبها، وقد استشعر شعبه ذلك فتعززت اللحمة بين الشعبين، ولا يمكن لأحد أن ينكر أفضال الملك عبدالله على لبنان والتنمية فيه واستقراره». وإلى الأوساط العامة، توجهت بالسؤال إلى السائق الذي تنقلت معه في أرجاء لبنان، وهو (محمد المستراح)، فلخص ذلك بقوله «لأننا نعتبر خادم الحرمين قائدا للأمة لا مليكا على المملكة فقط»، بينما قال لي الحلاق (فارس حمد) «لا جديد في هذا.. فكلنا يعلم ماذا تقدم المملكة للبنان، وندرك أنه لولا وقوف المملكة وبعض دول الخليج لما كان لبنان اليوم ناهضا بهذه التنمية». في منطقة التماس بعد أن تجاوزنا من بيروت إلى طرابلس عشرات نقاط الجيش والدرك في مسافة لا تتعدى 83 كيلومترا، وصلنا إلى مخيم اللاجئين في البداوي، الذي يقع تحت سيطرة أمنية فلسطينية بالكامل، عبر فصائل حماس وفتح والجهاد الإسلامي، وكان الوصول إلى التبانة أمرا في غاية الصعوبة، فسلكت طريقا مختصرا عبر وادي النحلة، نزولا من جبل البداوي، ولا شيء هناك يتحدث غير الدمار، وأدركت فعلا أن المنطقة قد شارفت على الحرب الأهلية. توغلت في ثلاث مناطق تقيم فيها أكثرية من السنة والمسيحيين، هي التبانة والقبة وأبو سمرا، حيث يواجهها جبل محسن معقل العلويين المؤيدين للنظام السوري، وفي تلك المناطق الثلاث لم أر مسجدا ولا مئذنة إلا وقد شوهتها القاذفات، فيما يخيم السواد على واجهات كل المنازل والمحال التجارية. سلكت بعدها طريق سورية، وكان اسما على مسمى، إذ يزدحم بمئات السوريين العاملين في التجارة والنجارة والحدادة وصيانة السيارات، فصعدت من خلاله إلى مساكن الحريري في القبة، وهناك تجلت المأساة في تدمير مدرسة القبة الحديثة الابتدائية، وتم تهجير طلابها قبل انتهاء الدراسة بأسبوعين. وقفت بعدها في ميلة ريفا، وهي خط التماس بين القبة وجبل محسن، بجوار الطبابة العسكرية، حيث استوقفني ضابط في الجيش يسألني عن دواعي التصوير، وعندما تحدثت له عن مهمتي تفهم الأمر على مضض، واكتفى بالقول «يجب أن تغادر فورا». أخذت نفسي عبر طريق زغرتا طرابلس، لأنفذ إلى منطقة أبو سمرا، لكنني فوجئت في الطريق بوجود أكوام من إطارات السيارات وآثار حريق، قبل لي إنها تستخدم لإغلاق الطريق، لقطع السبيل على العلويين لئلا يتوغلوا في مناطق السنة، وقد أسرفوا في إحراق الإطارات بعد اعتقال شادي مولوي. رعاية سعودية للمصابين السوريين توجهت بعدها إلى مستشفى طرابلس الحكومي، وهناك التقيت مديره خالد كنعان كندة، والذي أجزل شكره للمملكة على تكفلها بتهيئة طابق كامل، بسعة 40 سريرا في المرحلة الأولى لعلاج المصابين واللاجئين السوريين، وأوضح أن المستشفى يستقبل 80 في المائة من الجرحى، ويتوزع الباقون على مشافي الشمال بين مستشفى دار الشفاء والرحمة في أبو سمرا. قيادي في الجيش الحر ل «عكاظ»: تسليحنا من داخل سورية صادفت أثناء جولتي داخل مستشفى طرابلس الحكومي وجود قيادي في الجيش السوري الحر مبتور اليد اليسرى، فحاورته وضمنت له سرية معلوماته الشخصية، كاسمه وتجنبت تصويره كي لا يستهدفه النظام السوري بسوء، لكنه فاجأني بالرد «لا، بل انشر اسمي وصورتي، فلم يعد لدي شيء يعز علي أن أخسره، حتى وإن كان حياتي». أبو يامن (مرهف محمد آغا) من كتيبة الفاروق يكشف في حديثه لي عن تفاصيل دقيقة عن تنظيم الجيش الحر وتسليحه، إذ دحض الأصوات التي خرجت من المؤيدين للنظام، وبعض القوى السياسية في لبنان من أن المملكة وقطر وتركيا تدعم الجيش الحر بالمال والعتاد، وقال: إن تسليحنا من مصدرين لا ثالث لهما، إما غنائم نظفر بها من الجيش الحر، أو شراء أسلحة من داخل سورية ومن بعض أفراد الجيش النظامي ذاته، دون أن نستورد أي سلاح من الخارج أو نستقبله من الحدود كما يدعي المؤيدون لنظام الأسد. يضيف أبو يامن: إن أبرز الأسلحة التي نستخدمها في مواجهة الجيش النظامي هي رشاش «كلاشنكوف»، والقنابل اليدوية «الرمانة»، وهذه غنمناها من الجيش، أو من منشقين عنه، بينما أكثر ما نحسب حسابه قبل استخدامه قذائف ال «آر بي جي»، حيث نشتري القذيفة الواحدة من الجيش النظامي بألف دولار. اعتقلوا شقيقي ويشير أبو يامن إلى أنه شارك في حلقة تلفزيونية مع الشيخ عدنان العرعور، ففوجئ في صباح اليوم التالي أن هاتفه أحد جيرانه يبلغه باعتقال شقيقه الأصغر، ورهنه لحين عودة أبو يامن من لبنان. 23 ساعة أمشي بيد مبتورة وعن سبب بتر يده يقول أبو يامن: قبل خمسة أشهر وتحديدا في السادس عشر من فبراير (شباط) الماضي هوى صاروخ على منطقة بابا عمرو، وكنت على بعد متر ونصف المتر عنه، فاخترقت الشظايا صدري ويدي وقدمي، فنجوت نسبيا من الشظية التي توجهت إلى صدري لأنني كنت مرتديا حزام مخازن الذخائر، بينما التي اخترقت يدي كانت الشظية الأعنف، حيث بترت العظم واللحم سوى قطعة صغيرة من الجلد، فتدلت يدي وصرت أمشي وأنا أحملها بيدي الأخرى، فلما حاول أحدهم إسعافي بصورة بدائية في أحد المنازل وجدنا أن الحالة صعبة ولا يمكن التعامل معها ببساطة، فتوجهت إلى الحدود اللبنانية، حيث استغرق وصولي إلى هناك 23 ساعة، بسبب تعاقب إطلاق النار، والسير عبر طرق ريفية وجبلية وعرة، وهي المسافة التي كنا نسلكها في أيام السلم في ساعة واحدة، إلى أن جئت إلى النفق المؤدي إلى الأراضي اللبنانية قبل قصفه من الجيش النظامي، حيث أخذت أمشي داخل النفق مسافة أربعة كيلومترات وكانت يدي لا زالت متدلية، حتى دخلت الأراضي اللبنانية ونقلت إلى مستشفى طرابلس، وعلى مدى أسبوعين حاول الأطباء إعادة يدي ولكن تبين أنها أصيبت ب «غرغرينا»، فقرروا بترها، وذلك في آخر يوم من شهر فبراير. ويستذكر بأن جريحا في حالة صعبة جاء للمستشفى في منتصف شهر مارس (آذار)، ولم يجدوا له سريرا، فآثرته على نفسي، وخرجت لأمنحه السرير الذي لازمته شهرا كاملا.