بعد التجربة القاسية والمريرة التي مر بها العالم في خضم أحداث الحرب العالمية الثانية والتي امتدت ما بين (1937 - 1945م) وقبلها وفي وقت ليس بالبعيد الحرب العالمية الأولى (1914 - 1918م) دون أن نهمل ذكر أن الحرب الأخيرة تعد أيضا إحدى نتائج الحرب العالمية الأولى ويعتبرها الكثيرون ظهورا آخر أو امتدادا لها ولكن هذه المرة بشكل أكثر شمولا وبشاعة. أثناء هاتين الحربين الشرستين وما خلفتاه من دمار جر وباله على العالم أجمع كان هناك حدث آخر هو من الأهمية بمكان وهو ما سمي بالكساد الكبير أو الانهيار الكبير (Great Depression) والذي كان خلال الفترة ما بين (1929 - 1933م). هذه الظواهر الثلاث التي تعد منحنى أساسيا غيرت مجرى الكثير من الأحداث التي ارتبطت بالتاريخ أو الجغرافيا والتي لا يزال أثرها واضحا على العالم وعلى المجتمعات حتى الآن.. الغريب في الأمر أنه خلال الفترة الواقعة ما بين عام 1921م (والتي تمثل الفترة الأخيرة من السينما الصامتة) خروجا من الحرب العالمية الأولى ومرورا بالكساد الكبير ثم بعد ذلك الحرب العالمية الثانية والانتهاء منها وحتى بداية الستينيات تعتبر في مقياس النقّاد هي الفترة الذهبية لهوليوود. وخلال هذه الفترة كان للمسارح ودور السينما الدور الأقوى في التأثير على أفكار الناس وزعزعة آراء المجتمع.. في تلك الأثناء وإبان نهاية الحرب الثانية كان لا يزال العالم يعيش نوعا من القهر أو اليأس ويفكر بذهنية مشوشة ولا تزال حكايات الحرب التي كانت تذاع على الراديو أو تناقلها الناس والصور التي شاهدوها بأم أعينهم أو وصفت لهم أو رأوها عبر المنشورات ما زالت كل تلك الأشياء تعج بمخيلة الناس وتتحكم في كثير من تصرفاتهم وردات أفعالهم وتبرر خوفهم وترقبهم لأحداث العالم. وفي عام 1947م بالتحديد أي بعد عامين من إعلان نهاية الحرب العالمية الثانية جاءت صرخة المخرج الصقلي الأصل أمريكي الجنسية فرانك كابرا (Its A Wonderful Life) وعلى طريقته وكأنها محاولة لبعث الأمل في نفوس الناس والدعوة للتصالح مع العالم مرة أخرى ... «إنها حياة رائعة» عندما بدأت في كتابة هذا المقال حول هذا الفيلم كنت واثقا تماما أن أي عنوان سأختاره لهذا المقال لن يكون شأنه مثل هذا العنوان والذي قرر المخرج فرانك كابرا أن يختاره اسما لرائعته الشهيرة (Its A Wonderful Life).. فرانك كابرا هذا الرجل صاحب الحضور القوي من خلال أفلامه السابقة التي قدمها وتركت أثرا واضحا في سجل حياته الحافل بالإنجازات والدليل على ذلك أنه رشح قبل هذا الفيلم إلى خمس جوائز أوسكار ونال 3 منها، إذن وبثقة كبيرة سيكون لهذا الفيلم شأن عظيم، خصوصا أنه الفيلم الأول الذي يعود ويخرجه بعد انقطاع دام عن السينما 6 سنوات خلال الحرب الثانية، وتصديقا للأمر يرشح هذا الفيلم إلى خمس جوائز أوسكار لكنه لا ينال أي واحدة منها.. هذا الفيلم الذي يعد الآن ضمن قائمة أفضل 100 فيلم من كلاسيكيات السينما حسب تقييم المعهد الأميركي للسينما، ويجيء في المرتبة ال29 ضمن أفضل 250 فيلما في العالم، وهذا التصنيف حسب موقع (IMDB) وهو الموقع الأشهر في عالم السينما. يلعب بطولة الفيلم الرائع جيمس ستيورات الحائز على جائزة أوسكار على دوره في فيلم (The Philadelphia Story) عام 1940م ليعود بعد ذلك بست سنوات في دور (جورج بايلي) مؤكدا مرة أخرى على حنكة فرانك كابرا المهنية في اختياره لهذا الممثل.. إذ يصبح بعدها أهم دور قام به جيمس ستيورات في حياته الفنية مطلقا.. أما دور البطلة (ماري) وهي زوجة الشخصية (جورج بايلي) فقد قامت به الممثلة دونا ريد صاحبة الملامح الجميلة والتي لم تكن معروفة جدا حين ذاك رغم تألقها في دورين بطوليين قبل هذا الفيلم.. لكنها كانت قادرة بالفعل وقد لعبت الدور بطريقة مقنعة تماما وبقي الدور الأفضل في حياتها كما أشادت هي بنفسها عنه.. بالإضافة إلى الممثل الموهوب ليونيل باريمور والذي هو الآخر حاصل على الأوسكار عن دوره في فيلم (A Free Soul) سنة 1931م، هذا الرجل متعدد المواهب فهو ممثل تلفزيوني ومسرحي ومؤلف ومخرج وملحن. ويعد دوره في هذا الفيلم الرجل الخسيس (هنري) هو الدور الذي اشتهر به في عالم السينما. قصة الفيلم مبنية عن قصة قصيرة بالأساس (أعظم هدية تأليف فيليب ستيرن) وقام الكاتب العبقري فرانسيس غوودريتش بكتابة السيناريو للفيلم وشارك في ذلك المخرج فرانك كابرا. فرانسيس غوودريتش وهو صاحب الأوسكار عن روايته في فيلم (Another Thin Man) لعام 1936م، والذي يصادف أن جيمس ستيورات هو من قام بدور بطولته كذلك. بوجود هذا الفريق المذهل في أي فيلم كان.. لا بد بأن العمل سيكون موازيا لهكذا أسماء كبيرة لها حضورها ومكانتها في عالم السينما وأذهان الناس. منذ بداية الفيلم سوف تشعر بذلك النوع من التقدير أو الاحترام لهذا العمل وسوف يتولد لديك الإحساس بأنك سوف تكون شاهدا على أحداث تحفة فنية راقية سيظل صداها في النفس.. كل هذا سيتولد لديك من خلال ذلك الحوار الذي يدور في الدقائق الأولى.. تدور أحداث القصة حول (جورج بايلي) الرجل النبيل وصاحب المبادئ والقيم التي ورثها عن والده.. حيث يعود بنا الفيلم في قسمه الأول إلى حكاية هذا الرجل وكيف قادته المجريات والمتغيرات حتى اللحظة التي شكلت فاصلة في حياته... هذا الرجل الذكي والطيب الذي يخذله الحظ في مواقف عدة ويكلفه القدر فوق طاقته.. فمنذ صغره يفقد القدرة على السمع في إحدى أذنيه ويكافح ويعمل ليجمع المال حتى يدخل الجامعة ويتخرج ويحقّق حلمه في زيارة بلدان العالم.. لكن دائما للزمن قول آخر ومع هذا هو لا يخسر إرادته ويستمر بالمحاولة وتقديم أفضل ما يمكن للناس ولنفسه رافضا الفرص التي تمنح إليه والتي ستجعله صاحب ثروة أو منصب عن طريق استغلال أهل بلدته أو التخلي عن مبادئه التي يؤمن بها كليا ويحارب لأجلها حتى وإن كانت الخسارة تلوح له بكلتا يديها.. ومن الطريف والمحزن في نفس الوقت أن في كل مشهد مهم ورئيس في حياة هذا الرجل تحدث كارثة أو مصيبة مما يزيد الأمر سوءا وبالمقابل تكبر رغبته في الخروج من هذه البلدة وترك كل هذه الحياة الكئيبة خلف ظهره.. لكن بعد وفاة والده تصبح الأمور عسيرة وصعبة وينتقل كامل الحمل على كاهله في إدارة البنك الذي كان والده مسؤولا عنه .. ومع وجود منافس ذي نفوذ ومال وجشع لا حدود له يحاول بشتى الوسائل السيطرة على هذه البلدة ليقع أهلها تحت سيطرته ورحمته.. تزداد مهمته تعقيدا حتى يصل به الحال إلى فقدان إيمانه ورغبته بالانتحار.. الفيلم بشكل عام يرتكز على المحاورات الكلامية، خصوصا في النصف الأول من الفيلم إذ يكثر الحوار والسرد فيه، وقد يشعر هذا الأمر بعض من يشاهده بالملل لكن ما إن يبدأ النصف الثاني منه حتى تختفي هذه الحالة بظهور حل فنتازي ليصبح الفيلم مزيجا من الواقعية والخيال بعد ذلك. ويبدأ الترقب والانتظار والتساؤل حول الأزمة التي يمر بها البطل والتعاطف مع وضعه البئيس المجهول مصيره.. الفيلم أيضا يتحدث عن العلاقة الأسرية التي تربط بين أفرادها والعلاقة مع المجتمع الصغير الذي يعرف أبناؤه بعضهم جيدا وهم على أهبة الاستعداد لتقديم يد المساعدة في حالات النكبات وكذلك مشاركة الفرح في أوقات الفرح، هذه القيم السامية التي كان يتمتع بها المجتمع الأمريكي في ذلك الوقت قبل أن تفسده الرأسمالية وتقضي على معالمه الإنسانية النبيلة والتي تكاد تكون غير موجودة الآن ليس في المجتمع الأمريكي وحسب بل وحتى في مجتمعاتنا العربية التي بدأت تفقد هذا الجانب من هويتها.. ومع وجود الأصدقاء الذين يحبونه والزوجة التي تقف إلى جانبه دائما وتتفهم وضعه الحرج إلا أن المتاعب تتوالى على هذا المسكين ويفقد كل هذه الأشياء تقريبا.. بالإضافة لذلك تهديد آخر جديد بدخول السجن.. الفيلم مجملا تحفة رائعة قدمها فريق يحترم عقلية المشاهد ويقدر جمهوره.. لكن المؤسف في الأمر أن هذه الرائعة عند عرضها في دور السينما لم تحقّق العائدات المرجوة منها ولم تكن النتائج كما هي متوقعه ومأمولة ..لأسباب تتعلق بقوانين جديدة للسينما في هوليوود حين ذاك ..لكن الأشياء الجميلة هي التي تبقى وهي التي يخلدها الزمن ودون ذلك ينسى.. وقد عاد الفيلم في نهاية الستينيات وحتى أواخر السبعينيات وحقق نجاحا مبهرا حتى أنه أصبح لسنوات طويلة الفيلم الأول في ليلة رأس السنة.. ورغم أن الفيلم يعرض أحداث الحياة المحزنة وتقلباتها وظروفها ومنعطفاتها الصعبة إلا أن هناك دائما متسعا للتفاؤل والبقاء على أمل.. وسنجد أنفسنا في نهاية الفيلم نقول ونكرر ما قاله فرانك كابرا على الملأ «حقا .. إنها حياة رائعة».