لا أدري على أي حال سيكون الجو خلال قراءتكم لهذا المقال، لكني أكتبه الآن والرياض تجلد بسوط لاذع من الغبار ينهش جلدها بأنياب وأضراس لا تشبع. أشعر أني مطمورة في رمال الدهناء تعانق أهداب عيني ذرات التراب وتلتصق بجبيني وتتأرجح فوق شفتي. للغبار نكهة مسافر أنهكه قطع البيداء على ناقته الضامرة، تجتازه الليالي وتزحف من حوله الكثبان يمتطيها علوا وهبوطا. ترفع بصرك في السماء فلا ترى سوى فضاء مظلم يبذر ذرات الاختناق من حولك ولا طيف من حلم ولا لمسة من حنان. رائحة الغبار تسوق إليك خيالات بعيدة تهدهدها أمام عينك تنشد تعويضك وسط مسرح العذاب، تسوق إليك ظلالا نبشتها من بين طيات التراب، غابت في منعطفات السنين، ظلالا تتماوج عبر خيالك تنساب متهادية على رؤوس أصابعها كعذراء تزف إلى حبيب عاشت العمر ترتقبه. تغريك الظلال بالحنين والذكرى، تلمح جدك واقفا محتميا إلى جدار بيت شعر أو مستندا إلى ظهر ناقة. تعلو وجهه ابتسامة رضا، يغازل بألحانه شعاع القمر، فتخجل من نفسك وتحاسبها على التذمر. كيف يرضى هو وتضطرب أنت !! تنكر مشاعرك، وتعتزم أن تتقمص سماحة جدك، فترسم ابتسامة رضا زائفة على شفتيك المغموستين بالغبار، تحاول أن تستعيد إحساسا مسروقا بالراحة، تبحث عن نقطة جمال تزين بها مشاعرك، تبحث وتبحث وتبحث، لكنك مرغما تعود خالي اليدين!! في الرياض قد تغتسل وتغتسل وتغتسل لكن ذرات الغبار تأبى أن تفارقك، هي جازمة حازمة في إعلانها الحب عليك وإشهارها الإصرار على البقاء على سطح جلدك، فلا تفكر في الهرب لأنك لن تفلح. ذرات الغبار كذرات الضوء تتسلل إليك مهما احتجبت عنها، وتقتحم عليك عزلتك كضيف ثقيل يفرض ذاته على مجلسك، يشاركك مائدتك ويسبقك إلى فراشك ويقبل نيابة عنك أطفالك. وإذا كان المتعارف عليه أن الحب من طرف واحد مؤلم لصاحبه، فإن الحال مع ذرات الغبار في عشقها لك مختلف، هي سعيدة بحبك حتى وإن لم تبادلها حبا بحب، لذلك هي تتشبث بك تحضنك متسللة إلى أعطافك تنعم بقربك ودفئك حتى وإن أبيت. بعد أن تذيقك الرياض مر قسوتها فتبيت وهي مغضبة عليك، تطالعك في صبيحة اليوم التالي وديعة هادئة، تطل عليك بوجهها البريء تتلألأ فوق جبينها بسمتها الوضيئة، ترنو إليك بحنو أم فارقها وليدها، فتشعر بفرح طفولي يطفو على سطح قلبك وتتسلل عذوبته إلى عروقك، تغتسل روحك في بركة الصفاء، تخدرك نشوة السعادة فتغفر، وينبض قلبك بالحب. تستقبل بوجهك أشعة الشمس الدافئة، وتملأ رئتيك هواء نظيفا، تبادل الابتسامة بابتسامة، وتنطلق.. نحبك أيتها الرياض، مهما قسوت.