منذ ثلاثينيات القرن الماضي بدأ النفط والتفكير في التنقيب عنه في تغيير الوجه الحضاري والاقتصادي والاجتماعي في المنطقة الشرقية من المملكة والذي امتد ليشمل الوطن بأكمله، ومع انطلاق أعمال شركة أرامكو في بداياتها حرصت الشركة على إحداث هذا التغيير على المستوى الاجتماعي خاصة، وفق معايير دقيقة تراعي الجودة كنمط حياة، والمستقبل كنمط تفكير. ولم تكتف الشركة في هذا الجانب بتقديم الخدمات والامتيازات لموظفيها وحسب، بل امتدت لتشمل كل سكان المنطقة، وإن كانت البداية موجهة لموظفي الشركة، وأنشأت أرامكو سكنا لموظفيها يراعي هذه المعايير الدقيقة، ومع توسع أعمال الشركة ساهمت في إنشاء أحياء سكنية ومخططات منح مجانية خصصتها للعاملين فيها، وحرصت أيضا على أن تكون البنية التحتية لهذه المخططات والأحياء متينة تقاوم عوامل الزمن، وتقف في وجه التقادم في المستقبل البعيد، وبنت المدارس النموذجية فيها. هذا التخطيط الاستراتيجي والفكر المتقدم يلمسه كل من يزور هذه الأحياء السكنية اليوم، ليرى كيف أنه وبعد مرور عقود طويلة من الزمن، ما تزال هذه الأحياء هي الأكثر تطورا والأكثر نموذجية حتى من الأحياء الحديثة. يروي ل«عكاظ»علي بن محمد البلوشي أول رئيس لنادي القادسية في المنطقة الشرقية وأحد قدامى موظفي أرامكو (متقاعد)، وتولى منصب مدير عام خدمات أحياء السكن في أرامكو السعودية منذ العام 1981م وحتى تقاعده عام 1990م، تفاصيل مرحلة بداية بناء الإسكان لموظفي الشركة إبان عمله في أرامكو السعودية من العام 1960م، وحتى 1990م، ويقول: «بدأت أرامكو بتوفير إسكان مؤقت اعتمدت فيه على العشش والخيام، واهتمت بالعزاب أولا ومن ثم كبار الموظفين إلى أن وفرت إسكانا لكامل موظفيها من عزاب وعوائل على مراحل متعاقبة؛ فبعد العشش والخيام بنت الشركة منازل من «الشنكو»، وبعدها جاءت مرحلة البيوت الحجرية ولم يكن يوجد مكيفات آنذاك، بل مراوح فقط، وبعدها تطورت البيوت وفق الطرق المستحدثة للمنازل وأدوات البناء وتوفرت كافة الوسائل، وبدأت الشركة ببناء البيوت للموظفين خارج نطاق الشركة، مثلا في حي الدوحة والظهران والخبر والدمام». ويضيف البلوشي: «قدمت الشركة خدمات كبيرة جدا للمنطقة، وقد عايشت شخصيا تلك المراحل وأديت الأدوار والمهام المكلف بها في الإسكان على أكمل وجه بإذن الله، بعد تدريب وتوجيه وإطلاع على كافة الطرق السكنية». وزاد «كانت ترأسني امرأة أمريكية عملت على تدريبي من مختلف النواحي وشجعتني على العمل، وكنا في المنطقة لا نعرف لبس البنطلون، وكان عيبا على الرجل أن يلبس البنطلون والبدلة، ويعتبر لدى أهل الشرقية (خارج النص) ومن الخواجات وغير مسلم». البنطلون عيب ويتذكر البلوشي: «أهدتني رئيستي في العمل الأمريكية بنطلونا، لكنني (خشيته) لكي لا يراه والدي؛ لأنه يرفض أن ألبس البنطلون، ولكن مع مرور الوقت ولبس موظفي الجمارك والجوازات البدل، حتم علينا الوضع أن نتماشى معه ورضي أهل المنطقة الشرقية بالواقع، ولكن المهم في الأمر أن الأمريكان الذين عملوا معنا ودربونا وعلمونا وطورونا كانوا لا يتدخلون في شؤون الدين ولا يعرفون العنصرية، وهذا الأمر انعكس على أهل المنطقة، وبالتالي أصبح ديدن الجميع عدم التفرقة والتقارب والكل يعتبر الآخر قريبا له في أنحاء المنطقة وإلى الآن ما تزال الطيبة والتوافق بين أهل المنطقة مستمرة، فأرامكو كان لها دور بارز في التأثير في نمط الحياة في المنطقة الشرقية، وخاصة الناحية السكنية والتخطيط والتعليم والمستشفيات وأدت دورها الاجتماعي بشكل جيد، وأذكر أن من أدوارها في البداية أنها وفرت وحفرت آبار مياه في مدينة الخبر والدمام للمواطنين، وأحضرت أجهزة طبية للحماية من الأمراض التي كانت منتشرة في المنطقة مثل الملاريا والتراخوما، وحسنت أوضاع المنطقة تدريجيا، وبنت المدارس التي لازال يستفاد منها ليس لموظفي أرامكو وحدهم، بل جميع سكان الدوحة والدانة وبعض المدن الأخرى في الشرقية». ويؤكد البلوشي« أرامكو هي من أسست وبنت جامعة البترول والمعادن وسكن الطلاب القديم، ولم يكن هناك أي شركات لها دور بارز في المنطقة عدا أرامكو، ويجب أن تستمر على هذا النهج وسوف تصل وتستمر في بناء المنطقة وتطويرها»، مضيفا «أتذكر أثناء إشرافي على السكن أنه كان هناك حي كامل سمي سعودي كوم؛ لأنه خصص للعوائل السعودية يتناسب وخصوصيتنا». البنية التحتية ويقول ل«عكاظ» جاسم الياقوت المدير السابق للإعلام الخارجي في المنطقة الشرقية والرئيس السابق لنادي القادسية وأحد المعاصرين لمرحلة البناء والنهضة في المنطقة «بكل تأكيد أشرفت أرامكو على تخطيط أحياء الدوحة والدانة والخبر وبدأت البنيان فيها حتى غدت هي الأفضل في المنطقة الشرقية؛ للبداية السليمة وبنيتها التحتية الجيدة التي ركزت أرامكو على الاهتمام الكبير بها لتتمكن من مقاومة عوامل الزمن والكثافة السكانية»، مضيفا «ولكن العمل المأمول من شركة بحجم أرامكو يجب أن يكون أكثر من جميع الشركات لتطوير المنطقة بشكل عام، وقد تكون هناك أحياء تحتاج إلى التطوير وإعادة تخطيطها وفق المعايير التي اتبعت في الأحياء النموذجية».