فتية كالبدور، ابتدروا حياتهم بحب الحرف، فأحبهم أهلهم وذووهم، ثم اتسعت دائرة معارفهم لتشمل رواد الكلمة على اتساع رقعة الضاد. متكئا على بصيرة العارف، استطاع سيدي الوالد، ورفيق دربه معالي الشيخ عبدالله بلخير «رحمهما الله» أن يتتبعا المنجز الثقافي رغم حياء البدايات لشبيبة متوقدة من أبناء الوطن، في منطقة الحجاز تحديدا، فجمعا ما تيسر لهما من ثلاثة وعشرين شابا في ربيع العمر وغضارة العطاء، خلال النصف الأول من القرن الماضي.. فظهر آنذاك كتاب «وحي الصحراء» باكورة أمل أشرق من غرب المملكة العربية السعودية، معلنا للعالم العربي على وجه الخصوص، أن هناك صوتا له مستقبل في دنيا الكلمة، ومنافسة العمالقة، أو إن شئت القرب من قاماتهم السامقات. من بين أولئك الشباب من حمل لقب «معالي» فيما بعد، السيد حسن محمد كتبي، متقلبا في عدة وظائف إدارية وثقافية وصحفية، ثم حمل حقيبة وزارة الحج والأوقاف الأسبق غير أن إنتاجه الأدبي الغزير هو الذي أضاء الجانب الأكبر من شخصيته اللامعة.. ومنحه التمكين في قلوب محبيه الكثر. لقد أكرمني المولى عز وجل بطباعة الأعمال الشعرية والأدبية الكاملة لعدد مقدر من أساتذتنا الأجلاء ممن كانت لهم الريادة في «وحي الصحراء».. فمن تلك النبتة المتواضعة «كمّاً» العظيمة «مقاما» انبجست الأعمال الكاملة لكل من: سيدي الوالد، معالي الشيخ عبدالله بلخير، الشيخ أحمد إبراهيم الغزاوي، والأستاذة أحمد العربي، عبدالحق النقشبندي، أحمد قنديل، عزيز ضياء، عمر عرب، محمد سعيد العامودي، حسين باشا سراج، أحمد السباعي، حسين سرحان، عبدالحميد عنبر، عبد الوهاب آشي رحمهم الله رحمة واسعة. وسارت القافلة، كلما قطعت منازل في سفر الزمان كانت أقرب إلى الكمال الأمر الذي يظل منشودا دون أن يتحقق أبدا إلى أن أصبح القمر محاقا، وعاد كالعرجون القديم.. فتهاوت أنجم كانت بالأمس ملء السمع والبصر.. ثم فجعنا برحيل آخرهم، أستاذنا الكبير معالي السيد حسن كتبي، فانطوت برحيله فترة امتدت زهاء قرن ملؤه العطاء والبذل ومجاهدة النفوس التي ما فتئت تواقة لنيل المعالي، ووضع الأمور في نصابها الصحيح، رغم اللأواء، وسماسرة المستحيل الذين يجيدون وضع العصي في الدواليب. سار الركب مراهنا على سعة صدر ولي الأمر وإدراكه التام لما للكلمة من مكانة سامية في نهضة الشعوب، مستلهمين الماضي والحاضر لإثراء الوعاء الأشمل والأهم الذي أفلح دون شك في البقاء والتداول، فكان الحب المتجذر للكتاب بمعارضه الدولية، وشموخه، وإصراره على أن ينافس بقوة كل وسائط الإعلام الصارخة بألوانها، وهتافاتها، وتعدد قنواتها.. وبحمد الله جاءت مسيرتي مع الرهان الصحيح، لاستيعاب هذا الكم الكبير من الأعمال الكاملة لروادنا الأفاضل، إسهاما متواضعا في الحفظ من التشتت والضياع، ثم تمت الاستفادة بصورة احترافية من شبكة «الإنترنت» لضمان الوصول لكل من يرغب الاستزادة درسا وتحصيلا وتحليلا، وسلما نحو الدراسات العليا. بكل أسى رحل آخر الفتيان.. معالي الأستاذ السيد حسن كتبي .. تاركا إرثا كبيرا وجميلا من الشعر والنثر، وكم كان بودي أن يستمر العطاء والنشر ليشمل كل من أسهم في «وحي الصحراء».. وأن تضع «الاثنينية» بصمتها ووسمها «الثلاثيني» في أقرب وقت ممكن، بيد أن الظرف الصحي الذي أمر به، يحول دون ذلك، كما أن صدور بعض الأعمال الكاملة لعدد من رواد «وحي الصحراء» يجعل من نافلة القول تكرار أعمال قد يكون من الأجدى نشر غيرها مما يسهم في خدمة الثقافة والفكر من زوايا ومرافئ أخرى، دون إخلال بما تم نشره من أهمية راسخة في الساحة. انقضت المنازل، وعاد القمر كالعرجون القديم، علاقة أزلية تنبئ كل حين بدورة الزمان لمن ألقى السمع وهو شهيد.. والحمد لله الذي هيأ لنا حصر ونشر ما أمكن من تراث هو ملك لهذه الأمة، ليكون نبراسا لكتائب قادمة من شبيبة نرجو أن تجد فيما ورثت خير أساس لتشيد عليه ما قد يشكل لبنة في خدمة البشرية في كل زمان ومكان، فأمة «اقرأ» ينبغي أن تظل حاملة مشعل الفكر والثقافة، وأن تذكر أبدا أن مع كل عرجون قديم هناك هلالا جديدا.. وأفقا شاسعا ومديدا. رحم الله أستاذنا الكبير معالي السيد حسن كتبي، وألهم آله وذويه ومحبيه الصبر وحسن العزاء، وأثابه مغفرة ورحمة ورضوانا، بقدر ما قدم لوطنه ومواطنيه وأمته، وأسكنه فسيح جنانه مع الصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.