في اليوم الثاني من زيارتنا لمحافظة درعا طلبنا من مرافقنا التوجه نحو القرى الغربية للمحافظة وتعذر الأمر. إذ أبلغتنا تنسيقيات الثورة أن الجيش ينفذ حملة عسكرية في منطقة وادي اليرموك عند مثلث الحدود السورية الأردنية الفلسطينية. كانت الأنباء تتوارد عن مجزرة ارتكبها النظام بحق أفراد نزحوا من قرية سحم الجولان هربا من القصف حيث قتل نحو 06 مدنيا بينهم نساء وأطفال وشيوخ بقذائف الهاون والمدفعية في منطقة وادي جلين المطلة على نهر اليرموك. اتجهنا شرقا عبر طريق ترابي للالتفاف على ستة حواجز للجيش في منطقة النعيمة الملاصقة لمدينة درعا. وكانت محطتنا الأولى بلدة صيدا (13 كم جنوب درعا) ومن ثم الجيزة والمسيفرة وبصرى الشام حيث التقينا عددا من الناشطين الذين رووا لنا قصة مجزرة مروعة يشيب لها شعر الولدان. كانت قرى حوران بمجملها قد دخلت الحراك الثوري خلال الشهر الأول من اندلاع «ثورة الكرامة» كما يحب أن يسميها الكثيرون ممن التقيناهم، إلا أن عمليات القتل إلى ما قبل حصار درعا تركزت بمجملها في المدينة باستثناء بعض القرى التي شهدت سقوط قتلى خلال مظاهرات غاضبة كما حصل في الصنمين وطفس والنعيمة. مصير مجهول روى الناشطون قصة مذبحة وقعت في «جمعة فك الحصار عن درعا» يوم 29 أبريل 2011، حيث هب عشرات الآلاف من الأهالي من القرى الشرقية (الجيزة، المسيفرة، معربة، بصرى الشام، كحيل، أم ولد، السهوة وصماد) نصرة لأبناء مدينة درعا ليسقط نحو 300 منهم بين قتيل وجريح إضافة إلى مئات المعتقلين الذين لا يزال مصير بعضهم مجهولا حتى الآن. يقول ح . الزعبي (أحد الذين شاركوا في جمعة فك الحصار). قرر أبناء قرى حوران مؤازرة إخوتهم في درعا. وتنادى الأهالي عبر مكبرات الصوت في المساجد يوم الخميس وقرروا أداء صلاة الجمعة في الجامع العمري. تجمع أبناء القرى الشرقية من كل حدب وصوب حاملين معهم الخبز والحليب والطعام لإيصاله لأطفال درعا وعوائلها وقطع كثير منهم مسافة 30 كيلومترا مشيا على الأقدام. وكان المئات منهم عراة الصدور يحملون بأيديهم أغصان الزيتون. يضيف الزعبي.كان بيننا الكثير من الأطفال وكبار السن إذ لم يستطع أحد تجاهل نداء أهل يقتلون. نظمنا مسيرتنا على شكل صفوف. عندما وصلنا نحو الساعة الحادية عشرة صباحا إلى مدخل بلدة صيدا الشرقي عند المساكن العسكرية خرج علينا ضابط برتبة عقيد حاملا بندقيته الآلية فيما اصطف خلفه عدد من الجنود. أمرنا بالتراجع فقلنا له إننا لن نتراجع إلا بفك الحصار عن درعا. وعلت حناجر بعض الشبان بالهتاف «الشعب يريد إسقاط النظام»، فعلا صوت الضابط صارخا « ألا تريدون الرئيس بشار» فكرر الشبان هتافهم. وما هي إلا ثوان وإذ بالضابط وعناصره يوجهون رصاص بنادقهم مباشرة إلى صدور الشبان العارية. سقط الصف الأول والثاني وعلت صيحات الله أكبر. كان الدم يسيل كالساقية من أجساد الضحايا والآلاف يتراكضون يمينا ويسارا لتجنب الرصاص. مشهد مروع كشف شاب آخر يدعى «أحمد. م» عن إصابته يوم المجزرة برصاصة في عظم الفخذ. وروى قصته مشيرا إلى أنه كان ضمن مجموعة اختبأت في أحد بساتين الزيتون في موقع المجزرة. قال أحمد: سقط أمامي رجل مسن من قريتنا (المسيفرة) برصاصة اخترقت وجهه. كان المشهد مروعا وكنت أسمع وأنا ملقى على الأرض صوت أحد الجنود يقول لزميله «هناك شخص يتحرك.. أطلق رصاصة على رأسه فهو لم يفطس بعد». وقبل أن أفقد وعيي بدا لي أن عشرات الجنود كانوا مختبئين على عمق نحو 50 مترا وخرجوا يطلقون النار على المدنيين دون تمييز، فقد كان هدفهم القتل فحسب. أحمد الذي اعتقل لثلاثة أشهر رغم إصابته تحدث عن العشرات من الجرحى الذين أصيبوا وتم نقلهم بسيارات عسكرية إلى دمشق ليقضي عدد كبير منهم قبل وصولهم مستشفى تشرين العسكري قرب حرستا. وتابع : مات ثلاثة في ذات السيارة التي نقلتنا إلى مستشفى تشرين. كانت إصاباتهم بليغة معظمها في الصدر والبطن ويبدو أن تعليمات قضت بأن لا يتم إسعاف الجرحى وكانوا كثر . كما أن الجرحى الذين وصلوا أحياء كان يتم تعذيبهم داخل المستشفى من قبل أطباء وممرضي النظام. وصف أحد الناشطين مجزرة صيدا بأنها واحدة من أبشع المجازر في التاريخ المعاصر لفصولها المروعة، والتي لم تنته حتى اليوم حيث تتواصل عمليات توثيق شهادات الضحايا الأحياء. ومن فصول تلك المجزرة كما يقول «سليمان. ع» أن نحو 40 شابا هربوا من الرصاص الحي، ودخلوا ملجأ لم يكتمل بناؤه قبالة مساكن صيدا. وخلال دقائق وبينما كان الجنود يمشطون المكان اكتشفوا وجود شبان فيه فقاموا بإعدامهم بدم بارد دون رحمة وتناثرت دماؤهم على جدران الملجأ. كانت رائحة الدم تملأ المكان وكان بين هؤلاء الشبان العزل من هو دون سن 15 عاما. يتابع أحمد قائلا: قتل الجنود من استطاعوا قتله، واعتقلوا المئات وساقوهم إلى ساحة مساكن صيدا العسكرية.. كنت بين المعتقلين وأتذكر مشهدا يراودني ككابوس كل ليلة حيث كان بيننا عجوز في السابعة والسبعين من العمر يجثو على ركبتيه مثل باقي المعتقلين. تقدم إليه أحد الجنود من عناصر المخابرات الجوية وسحبه إلى وسط الساحة وأمره أن يقول بما معناه «إن بشار هو كل شيء» فما كان من العجوز إلا أن صاح بأعلى صوته «أحد أحد». ضربه الجندي ببندقيته على رأسه وأمره بأن يكرر ذلك ... صاح العجوز بصوت أعلى ارتفاعا وأكثر إصرارا «أحد أحد». كرر الجندي محاولته للمرة الثالثة مهددا العجوز بالقتل وكان الجواب «أحد أحد» بعدها انطلقت رصاصات من بندقية الجندي إلى رأس العجوز وهو يردد «أحد أحد» فيما يقول القاتل للضحية وهو يحتضر « لن ينفعك أحد». مقتل حمزة وثامر وصف الناشط « ابن الرفاعي» ما جرى في المعتقل وقبلها خلال المجزرة بأنه جريمة لن ينساها أبناء درعا كما لن ينسى أبناء سورية مئات المجازر التي ارتكبت بحق الأبرياء. وتحدث عن مأساة الطفل حمزة الخطيب (13 عاما) وصديقه وزميل صفه ثامر الشرعي (من بلدة الجيزة) اللذين حملا الخبز لأبناء درعا واعتقلا مع المئات يوم مجزرة صيدا ليعودا إلى والدتيهما جثتين مشوهتين بعد نحو شهر من التعذيب قضياه في المعتقل. قال «ابن الرفاعي»: شاهدت حمزة الخطيب آخر مرة يوم المجزرة، وكان تم اقتياده سليما معافى مع المئات ممن تم اعتقالهم. وكنت أظن أنه سيعود إلى أهله حيا إلا أنه عاد بعد 28 يوما جثة هامدة. كان واضحا أنه تعرض للتعذيب قبل وفاته حيث تم قطع عضوه الذكري وتثقيب ذراعيه وصولا إلى صدره. شاهدت جثمانه ولم أصدق أنه «حمزة» . كان غضب الأهالي عارما لهول المشهد وزاد من غضبهم ومن فداحة الجريمة خروج قنوات النظام برواية تقول إن «حمزة» ورفاقه كانوا متجهين إلى مساكن صيدا لسبي نساء العسكر. ولم تمض عشرة أيام حتى تسلم أهالي بلدة الجيزة جثة الطفل ثامر الشرعي الذي تعرض أيضا لتعذيب ممنهج حيث تم تشويه وجهه وجسده واقتلاع أسنانه بطريقة وحشية. التحضير للمجزرة يتحدث أهالي صيدا عن قيام قوات الأمن والجيش ومليشيا الشبيحة يوم 28أبريل باقتحام المنازل المجاورة لمساكن صيدا العسكرية بطرق وحشية وصلت إلى حد إخراج النساء من بيوتهن وهن شبه عاريات. وجرى في ذلك اليوم إطلاق الرصاص بشكل كثيف لإرهاب الأهالي وتم بث شائعات حول وجود مسلحين في بعض المنازل المحيطة بالمساكن إلا أن جميع الجوار كانوا يعلمون أن المساكن أخليت من ساكنيها وتم نقلهم إلى أماكن أخرى. لم يكن أحد يتوقع أن تكون قوات الأمن والجيش دبرت المجزرة بعد علمها بأن أهالي القرى الشرقية سيتوجهون إلى مدينة درعا لفك الحصار. وتحدث أحد العسكريين المنشقين عن قوات الأمن عن تحضيرات بإيعاز من أعلى مستوى لمنع الأهالي من الوصول إلى درعا، وتم اختيار مساكن صيدا العسكرية مكانا لنصب كمين لوقف الزحف بحجة أمن عائلات العسكر. وقال العسكري المنشق إن العملية نفذت بمشاركة قوات من الدفاع الجوي اللواء 38 المتمركز بالقرب من المنطقة وعناصر المخابرات الجوية والمخابرات العسكرية والحرس الجمهوري. وأضاف سقط 140 قتيلا وجريحا وشاركت شخصيا في إحصائهم ونقل بعضهم إلا أنني لم أشارك في إطلاق النار، وتمكنت لاحقا من الانشقاق بعد أن وضعت تحت المراقبة. وتابع: بقيت قوات الجيش والأمن لنحو أربع ساعات تطلق النار. وكان الآلاف ما يزالون عالقين بعد أن استهدفتهم كمائن عسكرية تم نصبها على الطريق وخصوصا عند بلدة السهوة شرق صيدا بنحو 20 كيلومترا حيث كانت مدفعية الشيلكا تستهدف كل من يعبر الطريق عائدا إلى القرى الشرقية. كما هاجموا جميع البيوت المحيطة بموقع المجزرة واعتقلوا من فيها من جرحى ومن شبان دون تمييز. واستطرد شاهدنا المنشق قائلا إن الجنود قاموا بحمل الجثث من الشوارع ورميها على متن سيارات الزيل العسكرية كما لو أنها أكياس قمامة كانوا يكدسونها فوق بعضها البعض. ثم أحضروا صهاريج (وايتات) كبيرة من الماء وقاموا بشطف الشارع الذي امتلأ بالدماء حتى سالت على أطراف الطريق. وأردف في ذات اليوم وقعت ثلاث مجازر أخرى في محافظة درعا واحدة على المدخل الشمالي بين مدينة درعا وبلدة عتمان والثانية عند مدخل درعا الغربي على طريق اليادودة والثالثة في مدينة النعيمة شرق درعا سقط خلالها عشرات القتلى والجرحى إلا أن حجم القتل في مجزرة صيدا وضعها تحت المجهر. ولا تختلف رواية صيدا عن كثير من الروايات عن مجازر أخرى ارتكبت بحق المدنيين من قبل النظام وأجهزته الأمنية والعسكرية خلال عام من الثورة، وتبقى قصة التعذيب الممنهج وإرهاب السكان الآمنين واحدة من أبشع روايات العصر فلم يحصل أن روى المؤرخون كمثلها في أساليب سلخ الجلود واقتلاع الأظافر وتمزيق الجثث وهو ما سيكون محور قصتنا بعد مجزرة صيدا.