بخلاف الموقف الروسي الذي تحظى مساندته للنظام السوري، خاصة في مجلس الأمن، باهتمام إعلامي كبير، لا تجري أية محاولة جادة لفهم الموقف الصيني المماثل. وباستثناء كتابات إعلامية مبعثرة لا تلامس جوهر الأسباب التي تدفع بكين إلى الاستمرار بمعارضة استصدار قرار من مجلس الأمن بخصوص الأزمة السورية يظل الموقف الصيني غامضا إلى حد بعيد، و هو ما يعكس أيضا غموض السياسة الصينية من قضايا الشرق الأوسط عموما. لا بد من التأكيد أولا على أن الموقف الصيني لا ينبع من أي اهتمام بحيثيات الأزمة السورية كما أنه لا يرتبط، بخلاف الموقف الروسي، بوجود مصالح كبيرة لبكين مع دمشق، إنما ينطلق بشكل رئيس ومباشر من طبيعة العلاقات الصينية المعقدة مع واشنطن. فالموقف الصيني يعكس في جوهره مخاوف متزايدة مما تعتقده بكين استهدافا متناميا لمصالحها من قبل إدارة الرئيس أوباما التي عادت لتركز على الصين بعد أن غابت طويلا عن الأجندة الأمريكية خلال حكم إدارة الرئيس جورج بوش التي جعلت اهتمامها ينصب بالكامل على ما يسمى «الحرب على الإرهاب» وميادينها الرئيسة في الشرق الأوسط و العالم الإسلامي عموما. تتمحور مصالح الصين الاستراتيجية الكبرى حول نقاط ثلاث رئيسة هي الحفاظ على الاستقرار الداخلي، ضمان تدفق صادراتها إلى العالم و بالحد الأقصى في مقابل الحصول على احتياجاتها من مصادر الطاقة التي تساعدها في عملية التصنيع، وأخيرا الاحتفاظ بالسيطرة على الدول العازلة الواقعة على تخومها لحماية أمنها المباشر من أي تهديد. جميع هذه المصالح، كما ترى بكين معرضة للاهتزاز لأسباب ترتبط مباشرة أو مداورة بحقيقة السياسات الأمريكية تجاهها. فالاستقرار الداخلي لم يعد مضمونا نتيجة تركز الثروة في مناطق الساحل الشرقي في مقابل بقاء الداخل الصيني في حالة فقر مدقع. و المعروف أن نحو 900 مليون من أصل 1،3 تريليون صيني يعيشون تحت خط الفقر الأدنى. خلال العقود القليلة الماضية حاولت الحكومة المركزية استخدام الموارد المالية الهائلة الناجمة عن فوائض التصدير لخلق فرص عمل لمئات الملايين من الصينيين، لكن الأجور المنخفضة لم تساعد على انتشال الكثير منهم من أحضان الفقر والتحول نحو نمط حياة استهلاكي يقلل من الاعتماد على التصدير. إضافة إلى ذلك فإن الأزمات المالية المتلاحقة التي ضربت عموم الغرب و كان آخرها أزمة الديون الأوروبية أدت إلى انخفاض نهم الأوربيين للبضائع الصينية نتج عنه إغلاق العديد من المصانع و تسريح الكثير من العاملين و هو ما تخشى الحكومة في بكين من أن يؤدي إلى اضطرابات داخلية واسعة بوحي من ثورات الربيع العربي، و خاصة في ظل الفوارق الهائلة في الثروة و التنمية بين الساحل و الداخل، علما أن 0.2 % من السكان يملكون 70 % من ثروات البلاد. و بحكم التجربة التاريخية المريرة مع الغرب و تمسك العقل الصيني المطلق بنظرية المؤامرة تعتقد بكين أن واشنطن تشجع على ظهور حالات تمرد داخلية تتغذى من تباطؤ عجلة النمو الاقتصادي المذهل الذي حققته الصين خلال العقود الثلاثة الماضية. كما ترى الصين أن تحول تركيز إدارة أوباما إليها من خلال زيادة التواجد العسكري الأمريكي في محيطها و محاولة إنشاء تحالف معاد لها يضم جيرانها (الفلبين و إندونيسيا و تايوان و كوريا الجنوبية و اليابان) إنما يستهدف خنقها وقطع الخطوط البحرية التي تعتمد عليها سواء في تجارتها مع العالم، أو في الحصول على إمدادات النفط الحيوية لاقتصادها. أخيرا تعاني الصين من صعوبات في استمرار التحكم باثنتين من المناطق العازلة التي تعتبرها حيوية لأمنها و هما التبت و إقليم سينغيانغ (تركستان الشرقية) ذوا الغالبية المسلمة. إذا تقاوم المنطقتان السيطرة الصينية عليهما وهما يتلقيان الدعم إما من الولاياتالمتحدة أو من حلفائها الإقليميين. التذمر الصيني من السياسات الأمريكية كان واضحا عندما أعلنت بكين الشهر الماضي عن أكبر موازنة عسكرية في تاريخها (110 مليارات دولار) رغم إدراكها استحالة التصدي للقوة البحرية الأكبر في العالم في حال اختارت واشنطن فرض حصار بحري على الصين قد يؤدي إلى خنقها كليا. هذا يؤكد أن الموقف الصيني في مجلس الأمن غير مرتبط بحيثيات الأزمة السورية، بل بالعلاقة المتوترة مع الأمريكيين، ومن خلال استخدام الفيتو مرتين تريد الصين أن تقول للأمريكيين إنها وبتحالفها مع موسكو قادرة على عرقلة المشاريع الأمريكية في مناطق مختلفة من العالم إذا استمرت واشنطن في مضايقتها أو التعرض لمصالحها.