كثيرا ما تفلسف الفلاسفة غير المتوجين بالعلم والثقافة على موسيقار الأجيال محمد عبدالوهاب بحكاية أنه «سارق للموسيقى العالمية» مستغلين بعض صدق وكذب ما أقره الخبراء الموسيقيون في مشكلات التداخل بين عبدالوهاب ورؤوف ذهني التي بقي سرها مدفونا حتى بعد رحيل كليهما، أما إذا ما عدنا لتعامل محمد عبدالوهاب مع الموسيقى العالمية سيما في استعراضاته الموسيقية قبل بدء اللحن في الأغنيات الطويلة التي لحنها لغيره من الأصوات، فهي حالة أشبه بالتماهي مع إبداع الكبار من موسيقيي الأمم الأخرى، وأكاد أجزم أنها خطوات كان يقدم عليها عبدالوهاب في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي كي يعلمنا الذوق في التعامل مع موسيقى العالم، وإذا سأل أحدهم كيف ولماذا؟!؛ فذاك لأنه لم يكن متاحا لنا في مجتمعاتنا العربية سماع أعمال العالم الموسيقية ما عدا صفوة المجتمعات (الطبقة المخملية) الذين كان جهاز (البيك أب) يكمل ديكور بيوتهم، ثم من الأسباب أيضا -كما أعتقد- انه يريدنا أن نعرف نحن من هو عبدالوهاب. الذي أود قوله هنا إن الفنانين الكبار يعرفون ما معنى الاستخدام في مجالاتهم والعمل على الإبداع أكثر من الادعاء أو محاولة التبرير لمن جاء وراح من الذين يتهمونهم بالسرقات دون أن يعرفوا ما معنى سرقة وما قرابة هذا وذاك بحالتي (التأثر والتأثير) من ناحية وتسجيل الإعجاب من ناحية أخرى باستخدام كل العمل أو روحه في عمل جديد إعجابا، وهذا ما حدث في مشهد أحب أن أحكيه وبإمكان الذي لا يصدقني أن يشرب من أكبر .... العالم . كنت في حضرة الكبير في الأغنية السعودية الصديق الأجمل طلال مداح في ليلة (صباحي) في بيته وحيدين، فجأة قال لي بعاميته التي لا يشابهه فيها أحد: «تعال هنا قوللي وانت عامل لي فيها ناقد ومؤرخ، تعرف من فين أنا لطشت لحن (وعد يا حبيبي في ساعة ما تخلف وعد) للأمير بدر بن عبدالمحسن»، عصرت ذاكرتي ورغم أني أحفظ اللحن جيدا، لم أخرج إلا بأنه من أجواء فيروزية، فقال «نعم إنه عمل رحباني وكله من أغنية وطنية عن القدس رحبانية بصوت فيروز». وعندما فكرت في كتابة هذا المقال عدت إلى كبيرنا في الموسيقى غازي علي الذي قال لي «نعم كنت بعد تنفيذ الأغنية مع ميشيل المصري الذي قلت له أجواء اللحن (رحبانية)»، حدث معي مرة أن كنت والموسيقار أحمد فتحي الذي أخذنا الحديث هو وأنا إلى حوار مشابه «هل تعرف من أين استقيت لحن أغنية (ليلتين) التي كنت قد صغتها لطلال مداح»، قلت لا قال: من لحن قديم لإبراهيم ألماس إلا أنني رغم أني لبست اللحن كنت قد جئت بالفكرة الأساسية لمطلع ليلتين بنغمة الليل دانة والكوبليهين، وإذا أبحرنا كثيرا في هذا المنعطف نجد أن محمد عبده أيضا أكثر فنان يحدث في أفكاره الموسيقية لدرجة أنه يسرق من ألحانه القديمة وأحيانا من غير أعماله من التراث، لكنها صناعة أكثر من أنها سرقة فهو جواهرجي وصائغ جميل ومثال ذلك في الكوبليه الذي يقول: لو تركتي لي في ليلة .. بسمتك عند الرحيل دمعة العين الكحيلة .. عذرها الواهي دليل. كانت هذه النغمة كما هي وببعض التصرف من أغنية التراث الصنعاني الشهيرة (يا نسيم السحر) وفي المقطع الذي يقول: يانسيم السحر .. هل لك خبر عن عريبِ .. بوادي المنحنى مع اختلاف الايقاع في الصنعانية 11/8 وفي كوبليه الرسائل لمحمد عبده 4/4 فاصلة ثلاثية يقول الأبشهي: صبورا على الغرام وبرده .. حليف الضنى لم يصغ يوما لعاذل ويقول جمال الدين: عانقته فسكرت من طيب الشذى .. غصنا رطيبا بالنسيم قد اغتذى ويقول أبو نواس: عهدتك مرة تنوين وصلي .. وأنت اليوم تهوين اجتنابي