.. وإذا كان مقام البياتي ( وهو مقام ذو تاريخ حضاري عميق) يلبي مشاعر الحزن الجماعي والانفراج الحسي ونماذجه كثيرة عند هذا الجيل مثل خالد الشيخ "كلما كنت بقربي" أو رابح صقر "يا نسيم الليل"،ومقام الرصد يعبر عن الاحتفائية الشعورية والشجن النفسي، فإن تسرُّب مقامات( سلالم موسيقية) كانت متجنبة دوماً في أنماط غناء الجزيرة العربية(الفجري عند البحارة، والسامري واللعبوني والخماري عند الحضر وجرة الربابة عند البدو)مثل:الكرد والعجم والنهوند إلى الواجهة كان ملفتاً، وهذا يشكل دفعة قوية لاستثمار بذور بدأها منذ ثلاثينيات القرن العشرين الأخوان صالح وداوود الكويتي( وهما موسيقيان كويتيان يهوديان تتلمذا على خالد البكر وأسسا الأغنية الحديثة بين العراق والكويت). حيث وضعا ألحاناً لقصائد وأغان كويتية وعراقية تبعت مقامات العجم والكرد والنهوند أثرت على غناء الكثير من فرسان تلك المرحلة مثل عبد اللطيف الكويتي والملحن والمغني محمود الكويتي (محمود عبد الرزاق النقي ذي الأصل الإيراني)الذي وضع سامرية:البوشية(شعر خميس الشمري)، والملحن يوسف المهنا لسامرية:يا نديمي (شعر:منصور الخرقاوي، غناء علية التونسية) من مقام النهوند، والملحن عثمان السيد قدم سامرية:أبشري(غناء حورية سامي)من مقام العجم،ولا ننسى أثر ظهور الصورة الجديدة في أداء ومزاج صوت حسين جاسم أول الستينيات ثم عالية حسين مطلع السبعينيات ( أصولهما تركية)، وربما تكون هذه محاولات لكسر تلك الرتابة في استنفاد طرق استخدام المقامات أو تكرار وضع الألحان من حروف متقاربة عند ذلك الجيل السابق. ..ولا بد من التنبه قبل الانتقال إلى فلك رباب وملحنيها والتجربة الجديدة إبان الثمانينيات، خاصة، في مسألة "الانحراف الموسيقي"الذي يعد أحد مظاهر تلك المرحلة حيث يسيطر لأكثر من عقد زمني على صناعة وإنتاج ليس الأغنية الخليجية بل العربية عموماً، ولنا تذكر منذ مطالع السبعينيات في مرحلة مخاضية بين آخر مراحل الأسطوانات وبداية مرحلة الكاسيت الذي فتح أسواقاً متعددة بين العالم كله. ..حضر في المشهد الثقافي العربي على مستوى الغناء والموسيقى، تجربة الأخوين رحباني وصوت فيروز حيث ينتمي الأخوان رحباني إلى المسيحية ذات الطقس الأرثوذوكسي المشترك مع تراث كنائس شرق أوروبا وروسيا كذلك الكنيسة الأرمنية والقبطية والأثيوبية دون نسيان أن الكنيسة المارونية ذات الطقس السرياني شديدة الصلة إلى تقاليد الموسيقى العربية والعبرية في مزاجها الشرقي من سلالمها الموسيقية وإيقاعاتها وقوالبها وأساليب أدائها دون غفلة تجربة عبد الحليم حافظ في أغانيه السينمائية آنذاك بألحان محمد الموجي وكمال الطويل وبليغ حمدي التي شكلت إلهاماً دفع طلال مداح وسراج عمر يتنافسان في وضع ألحان تعتمد آلات النفخ النحاسية وصياغات لحنية على سلالم موسيقية بين السلمين:الكبير والصغير في مسلسل "الأصيل1971"، وهما"أنا بودي"لسراج عمر، والآخر"مانيب أنام"لطلال مداح فيما واصل الأخير في هذا اللون عبر صورته الرومانسية أغنيات أخرى "وعد1978" المبنية على موتيف لحن برازيلي ثم وضع لحناً آخر"يا عيونها"(كتب معظم تلك الأغنيات بدر عبد المحسن)، وجرَّب محمد عبده استعارة موسيقى فيلم LOVE STORY التي اشتهرت عام 1970 للمؤلف الموسيقي فرانسيز لاي (المستقاة أصلاً من أعمال باخ)ثم وضع كلمات لها، فعرفت باسم WHERE DO I BEGIN وأقحمها في أغنية" خطا"لم تلق قبولاً رغم أنه كتبها شاعران هما خالد الفيصل وبدر عبد المحسن غير أن طلال مداح سيغني لحناً ممتازاً من لون الديسكو وضع كلماته ولحنه توفيق فريد"لحظة غضب1993"استثمر طاقات صوتية زاخرة في حنجرة طلال مداح، وكأنها تعلن آخر مرحلة لمعانه الكبيرة. *مقاطع تنشر على حلقات من دراسة مطولة عن تفاعل الآخر في ثقافة الخليج.