من بين أطرف المشاهد التي لا يمكن أن أنساها مشهد لأرض مسورة في منتصف العمران كتب على سورها (الأرض ليست للبيع.. هاتف...)!، يومها فاضلت بين أكثر من عشرة أسباب تدفع صاحب الأرض لوضع رقم جواله ما دام لا يرغب في بيع الأرض ولكنني لم أصل إلى نتيجة منطقية، واليوم بعد أن دخلنا في جدل فقهي طويل حول جواز أو عدم جواز فرض رسوم الأراضي البيضاء شعرت بالندم لأنني لم أدون ذلك الرقم كي أتصل على صاحبه لأسأله «هل رقم الجوال للبيع أم ستتركه هو الآخر لأحفاد أحفادك مثل الأرض؟!». أحيانا أشفق على الناس لأنهم ينظرون إلى مشكلة الأراضي البيضاء داخل المدن وخارجها باعتبارها سببا رئيسيا لأزمة السكن وارتفاع أسعار العقار، أشفق عليهم لأنهم دائما يقيمون المشكلة على أرض الواقع، ولا يفطنون إلى كون (أرض الواقع) أرضا بيضاء معفاة من الرسوم!، فهي لا تشبه (أرض الفانتازيا) التي تتمثل في الآثار الخطيرة والمفاسد العظيمة التي يمكن أن تحدث بسبب تفاقم مشكلة شح الأراضي في بلد مترامي الأطراف، لذلك سوف أترك لكم (أرض الواقع) بعد أن أشبعت نقاشا ودخلت في منعطف فقهي معقد وسأحدثكم عن (أرض الفانتازيا). فاليوم إذا احتاجت وزارة التربية والتعليم إلى بناء مدرسة داخل حي سكني فإن مشكلتها الأساسية سوف تتمثل في العثور على أرض لهذه المدرسة لأن الأراضي البيضاء ليست للبيع، وحتى إذا عرضت للبيع فإنها ستعرض بأسعار مضاعفة «واللي ما عندوش ما يلزموش» وهكذا لن يذهب القسم الأكبر من ميزانية التعليم لتطوير المناهج وطباعة الكتب المدرسة وتدريب المعلمين وتجهيز المدارس بل لشراء الأراضي! واليوم تواجه بعض المدن الكبرى مشكلة حقيقية في تأمين أراض للمقابر، ونحمد الله العلي القدير الذي من علينا بنعمة الإسلام وإلا لابتكر البعض دفن المتوفين وقوفا توفيرا للمساحة، بل إن كل مشروع سواء كان مستشفى أو سكة حديد أو جامعة يحتاج إلى ميزانية تبلغ أضعاف كلفته الحقيقية بسبب قيمة الأرض، وحتى إذا حاول الواحد منا أن يفرج عن ضيقته بالجلوس على شاطئ البحر أو التجول في الصحراء فإنه سيواجه مشكلة في العثور على ثلاثة أمتار يمكن أن يجلس فيها مع أولاده لشرب الشاي ويقول لحرمه المصون: «شايفه البحر شو كبير؟.. كبر البحر فيه أراضي مسورة ليست للبيع»! مشكلة الأراضي البيضاء لا تحرم غالبية الناس من الحصول على سكن وحسب، بل تحرمهم أيضا من المدرسة والحديقة والشاطئ والمستشفى والمقبرة، أي أنها لا تمنح البسطاء فرصة للعيش الكريم ولا حتى فرصة للموت الكريم! [email protected] للتواصل أرسل رسالة نصية sms إلى 88548 الاتصالات أو 636250 موبايلي أو 737701 زين تبدأ بالرمز 211 مسافة ثم الرسالة