حادثة إشعال الشاب الجامعي التونسي العاطل عن العمل محمد البوعزيزي النار في نفسه في 17 ديسمبر الفائت، احتجاجا على منعه من بيع الخضار ومصادرة عربته الخاصة، ومن ثم التعدي عليه بالضرب من قبل شرطة البلدية، كانت بمثابة الشرارة التي فجرت ثورة عاتية كان الشباب وقودها وقاطرتها، وشملت تونس من أقصاها إلى أقصاها (بما في ذلك تونس العاصمة) للتحرر من الاستبداد السياسي، والظلم والاجتماعي، والكبت الفكري، واليباس الثقافي، والإعلام الأحادي، وشتى صنوف الاستغلال والفساد، وانتهاك آدمية وكرامة الإنسان التونسي، على مدى عقود طويلة من احتكار النخبة الحاكمة في تونس لمكامن السلطة والثروة والقوة، حيث التزاوج المعلن بين رجال السلطة وممثلي المصالح الخاصة في ما يشبه بعصابة المافيا. حادثة حرق محمد البوعزيزي كانت بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير، حيث تحقق بنجاح وفي غضون أقل من شهر من الحراك الثوري / المدني المتواصل، إسقاط أحد أقوى الأنظمة الاستبدادية / الأمنية في العالم العربي، مخالفا بذلك كافة التوقعات، بما في ذلك توقعات النظام نفسه، ناهيك عن توقعات الخارج (الإقليمي والدولي) في الآن معا، بما في ذلك تقديرات وتحليلات مراكز الأبحاث والدراسات، وأجهزة المخابرات في الدول الكبرى، وتقارير الجهات الدولية التي تعنى بالتنمية وقطاعات المال والأعمال والتجارة في العالم مثل صندوق النقد الدولي والبك الدولي للإعمار ومنظمة التجارة العالمية، حيث كانت تونس تدرج في خانة الدول الأكثر استقرارا في بلدان العالم الثالث على الصعيدين السياسي والاجتماعي، مع نسبة نمو اقتصادي جيدة مقارنة بالوضع الاقتصادي / المالي العالمي، ووجود طبقة متوسطة متعلمة واسعة، مع إن تاريخ وقانون الثورات في العالم يؤكدان أنه ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان. الرد على الحدث التونسي جاء متباينا من قبل مكونات النظام العربي. من جهة هناك مزيج من القلق، الخوف، والترقب الحذر المغلف بكياسة سياسية حول اعتبار ما جرى في تونس شأنا داخليا، وأنه ستحترم رغبة الشعب التونسي في اختيار مساره الخاص نحو التغيير. بالطبع يستحضرنا هنا الموقف المستهجن لديكتاتور ليبيا معمر القذافي، الذي انتقد بصفاقة الشعب التونسي على قيامه بالثورة وإجباره الرئيس السابق زين بن علي على الفرار في 15 يناير الماضي. بغض النظر عن هذا الطرح السقيم والوقح للقذافي، غير أنه كان إلى حد كبير يعكس ما يعتمل من خوف وهلع من القادم من الأيام. ضمن هذا السياق، بعض القيادات والمسؤولين في بعض من النظم العربية أخذت تطلق تصريحات متتالية بأن الحالة التونسية هي حالة خاصة و لا تنطبق بالضرورة على أوضاع بلدانها المحصنة (أمنيا في المقام الأول) من انتقال العدوى التونسية اليها. نستعيد هنا تهكم جمال مبارك نجل الرئيس السابق حسني مبارك، و رئيس لجنة السياسات العامة في الحزب الوطني الحاكم، والذي كان مرشحا قويا لخلافة والده ، وذلك في معرض رده عن دور الشباب في ظل ثورة الاتصالات والمعلومات والإعلام الجديد وتأثيرها المتنامي، وخصوصا شبكات التواصل الاجتماعي، وعن إمكانية انتقال العدوى التونسية لمصر. تهكم جمال مبارك وقهقهاته الفارغة تجاوب معها الفور وبشكل كاريكاتوري على بعض أركان النظام السابق من الحاضرين معه في نفس القاعة، وقد كرر وزير الخارجية المصري السابق أحمد أبو الغيط الحديث عن استحالة تكرار السيناريو التونسي في مصر. غير أن التغيير الكبير حصل في مصر، وأرغم الرئيس المصري السابق على الاستقالة في 14 فبراير الماضي بعد مضي 18 يوما من المظاهرات والاعتصامات المليونية التي قادها شباب ثورة 25 يناير، وكان مقرها الأبرز ساحة التحرير بالقاهرة. الثورة المصرية كانت بمثابة الحلقة المركزية لسلسلة متواصلة من التحركات والهبات والانتفاضات التي اندلعت في بعض بلدان العالم العربي، رغم أن قياداتها بدورها كانت تتحدث وتصر على عدم إمكانية انتقال العدوى التونسية ثم المصرية إليها. لقد تبين مدى هشاشة مقولة الخصوصية العربية العامة أو الخاصة. لقد تأكد على نحو ساطع بأن شعوب الدول التي تحولت فيها المطالبات إلى صراع مسلح هي كبقية شعوب العالم تواقة للحرية والعدالة والمساواة، وبأن بقاء الحال من المحال. فكرة المطالبة بالتغيير الجذري والشامل نضجت بالنسبة للشعوب العربية التي تعاني من الاستبداد وذلك ليس بفعل التسونامي الثوري الجارف في المنطقة فقط، وإنما باستعادة وعيها المغيب وإرادتها المستقلة على مدى عقود بل وقرون من زمن الانحطاط والاستبداد. تلك الشعوب لم تعد مستعدة للعودة إلى الوراء أو المراوحة والتسويف إزاء مطالبها العادلة والمشروعة، فما كان مقبولا قبل الزلزال العربي، لم يعد مقبولا اليوم. النظام العربي والدولة العربية باتا أمام خيارين فقط لا ثالث لهما، الإصلاح أو الثورة. تحديد هذا الخيار يقرره ميزان القوى على الأرض بين السلطة ومرتكزاتها من جهة، وبين قوى الشعب والمعارضة وفي مقدمتهم الشباب من جهة أخرى.. بالتأكيد هناك فوارق بين الدول العربية، سواء في درجة وسرعة وعمق التغيير، وفي عوارض وآلام مخاض الولادة فيها، قد تكون سهلة ويسيرة نسبيا كما حصل في تونس ومصر، أو تكون قد تكون الولادة صعبة وعسيرة مما يستدعي ولادة جراحية قيصرية، وهذا ما لا نتمناه للشعوب والبلدان العربية وخصوصا في تلك البلدان التي ابتليت بحكام يعتبرون أنفسهم فوق المحاسبة، . ولسان حالهم يقول أنا أو الطوفان. للتواصل أرسل رسالة نصية sms إلى 88548 الاتصالات أو 636250 موبايلي أو 737701 زين تبدأ بالرمز 147 مسافة ثم الرسالة