قد يبدو هذا العنوان غريبا.. لكنه في اعتقادي من أصح العناوين التي تعبر عن إشكالية تدني مستوى المخرجات التعليمية. ذلك أننا حين نناقش هذه القضية ندور في دائرة مغلقة! فالجامعات تلوم المدارس على ضعف مستويات خريجيها، والمدارس تلوم الجامعات لأن المدرسين هم من خريجيها! وهكذا نبقى في جدلية الدجاجة والبيضة.. وأيهما كان قبل الآخر!. وعلى الرغم من أن التعليم العام والعالي يتحمل قدرا غير قليل من المسؤولية، إلا أن ثمة قدرا من المسؤولية تقع على المجتمع نفسه، وعلينا أن نكون جريئين في كشف هذا الجانب. وأرجو من قارئي العزيز ألا يزم شفتيه الآن.. ويقول: هذا مسؤول حكومي يريد تبرئة الجهات المسؤولة وإلقاء اللوم على المواطن المسكين الغلبان!. ولا والله ما أردت أن أخْليَ أحداً من مسؤولية يتحمَّلُها، وعبء أُنيطَ به، ولكنّني أرى أن أيَّ حل جذريٍّ لأي مشكلة لا يمكن أن يكون إلا إذا سَبَر العقلُ الفاحصُ سائر جوانبها، وتخلصَ من عقدةِ (السبب الواحد)، و(المسؤول الواحد) ليضع اليدَ على جوانب الخلل كافّةً. لنسلِّم إذنْ بالدور المركزيّ للتعليم العام والعالي في هذه القضية، بل وبالدور المركزي للمنظومة الحكومية في مجملها. لكن.. لنتحدث أيضاً عن دور المجتمع. مجتمعنا العزيز يحمل قدراً كبيراً من التقدير والإكبار للطبيب والمهندس، وقدراً كبيراً من اللامبالاة بالمعلم!. عندما يتخرج الأبناء بامتياز فإن الوالدين والأقارب والأصدقاء ينتظرون منهم أن يكونوا أطباء أو مهندسين، ولو فكر واحدٌ منهم أن يدخل كلية التربية، أو كليةً نظريةً تنتهي به إلى التدريس فإنّه سيواجهُ صدوداً عنيفاً، أو على الأقل تعجباً واستغرابا.. وربما اتهاما بقصر النظر!. والنتيجة الطبيعية لهذا الضغط المجتمعي أن يتوجَّه النوابغُ والأذكياء والأكْفاء إلى الكليات الطبية والهندسية وما إليها، وتبقى كليات التربية والكليات النظرية التي تخرج المعلمين موئلاً للضعفةِ والكسالى. والنتيجة النهائية.. ضعفُ مخرجات التعليم العام الذي يقوم عليه أساتذةٌ لم يسقهم إليه إلا ضعف مستوياتهم!. حين شعرتْ أمريكا بالخطر عام 1981 بسبب هزيمة طلابها في المسابقات الدولية أمام اليابانيين والكوريين شكلتْ لجاناً عليا لدراسة واقع التعليم، وفي عام 1983 صدر التقرير الشهير: (أمة في خطر) الذي شخَّص واقع التعليم الأمريكي بشفافية، ومن بين عبارات التقرير المهمة: «لا ينجذب نحو مهنة التدريس العدد الكافي من الطلاب القادرين أكاديميا، وأن عددًا كبيرًا ممن اجتذبتهم مهنة التدريس هم من الربع الأدنى أكاديميًا من خريجي المدارس الثانوية والجامعات». وبناءً على ذلك ارتفعتْ معايير القبول في الكليات التربوية التي تخرِّجُ المعلمين، بحيث أصبح القبول في هذه الكليات عسراً، ولا يقدر عليه إلا ذوو العقول والمواهب، واستطاع ذلك أن يرجع للتعليم الأمريكي بعض وهجه. في الضفة الأخرى من العالم.. تأتي دولةٌ أخرى استطاعت خلال سنواتٍ قليلة أن تلحق بالعالم الأول، إنها (سنغافورة)، وقد صرح باني نهضتها: (لي كوان) بأنَّ تعزيز النظام التعليمي كان هو البوابة الكبرى لهذه النهضة السنغافورية المذهلة. من أبرز سماتِ التعليم السنغافوري هو الشروط القاسية للالتحاق بكليات التربية وإعداد المعلمين، والشروط الأقسى لإكمال الدراسات العليا التربوية، حيث يلزمك لذلك أن تمتلك عشرين سنةً من الخبرة، وأن تقدِّم نماذج مشرِّفة من طلابك، وأن تحصل على توصياتٍ علمية معتبرة، وأن تكون صاحب سيرة ذاتية مميزة. فهل نجد في واقعنا التعليمي شيئا من هذا؟. أم نجدُ على العكس ممانعةً مجتمعيّة كلما حاولتِ الجامعاتُ أن تشدِّدَ في شروط قبولها، وأن تضعَ من البرامج ما يضمنُ الجودة النوعية لطلابها؟. الخلاصة إذن أنَّ أيَّ تصحيح جذريّ لمساقاتنا التعليمية يجبُ أن يبدأ من (نظرة المجتمع إلى المعلم)، هذه النظرة التي تنبني على جانبين: جانب التقدير والاحترام والشعور بالقيمة والأهمية والمكانة. وجانب الاشتراطات اللازمة التي لا بدّ من توافرها ليكون معلماً. وبهذين الأمرين نضمنُ كادراً تعليمياً مميزاً قادراً على أن يحدث انعطافة تاريخية في مخرجاتنا التعليمية. وحين يصرُّ المجتمعُ على أن ينظرَ لوظيفة المعلم على أنّها حمىً مباحٌ يتقحّمه كل من حمل شهادةً جامعيةً بغضِّ النظر عن مستواه وقدراتِهِ، وحين يصرُّ المجتمعُ على أن ينظر للمعلم نظرةً دونيةً، ولكليات التربية نظرةً سلبيةً، فإنّ المجتمع حينئذٍ يجني على نفسه عرف أم لم يعرف!. * مدير جامعة أم القرى