عصفت بقلبه لواعج هم وحزن فضاقت عليه الأرض بما رحبت، ورأى الحياة غمة مدلهمة لا شيء فيها يفرح به، إنه لا يدري لم نزل به كل هذا إلا أن فؤاده في كمد يعظم بمرور الدقائق، ظن أنه سيجد بمشاهدة التلفاز أو مطالعة الجديد في عالم «الإنترنت» أو محادثة صديق مخرجا من همه وحزنه وستنجلي عنه سحائب الغم ولكن لا جدوى، يود أن يجهش بالبكاء ولا بكاء، وخطر على قلبه أن يردد أذكارا يحفظها، وما إن شرع في تحريك لسانه حتى أبصر أبوابا تفتح أمامه وجبال هموم تذوب، ولامس قلبه شعور بفرح وسرور لاحت تباشير دنوه، لا يزال يردد ذلك الذكر موقنا بفرج الله، مفتقرا إلى إحسانه في خشوع وخضوع، حتى فتح الفرح أقفال قلبه وغمره بحلاوته ولذته وحل مكان الهم والحزن. أتدرون أحبتي القراء ما الذكر الذي ردده وأورث قلبه انفراج الهم وحلول السرور والفرح مكانه، إنه دعاء وذكر ثابت عن النبي عليه الصلاة والسلام فقد روى الإمام أحمد وابن حبان وغيرهما عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما قال عبد قط إذا أصابه هم أو حزن: اللهم إني عبدك وابن عبدك وابن أمتك ناصيتي بيدك ماض في حكمك عدل في قضاؤك أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحدا من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن ربيع قلبي ونور صدري وجلاء حزني وذهاب همي، إلا أذهب الله عز وجل همه وأبدله مكان حزنه فرحا، قالوا يا رسول الله ينبغي لنا أن نتعلم هؤلاء الكلمات، قال أجل ينبغي لمن سمعهن أن يتعلمهن. ومن أحسن ما قرأت في شرح هذا الذكر وبيان أسراره كلام للإمام ابن القيم رحمه الله في كتابه الفوائد، وإليك طرفا من درر من ذلك الدر النفيس، قال رحمه الله «فتضمن هذا الحديث العظيم أمورا من المعرفة والتوحيد والعبودية، منها أن الداعي به صدر سؤاله بقوله إني عبدك ابن عبدك ابن أمتك، وهذا يتناول من فوقه من آبائه وأمهاته إلى أبويه آدم وحواء وفي ذلك تملق له وانطراح بين يديه واعتراف بأنه مملوكه وآباءه مماليكه وأن العبد ليس له غير باب سيده وفضله وإحسانه وأن سيده إن أهمله وتخلى عنه هلك ولم يؤوه أحد ولم يعطف عليه بل يضيع أعظم ضيعة، وفي التحقيق بمعنى قوله إني عبدك التزام عبوديته من الذل والخضوع والإنابة وامتثال أمر سيده واجتناب نهيه ودوام الافتقار إليه واللجوء إليه والاستعانة به والتوكل عليه وعياذ العبد به ولياذه به وأن لا يتعلق قلبه بغيره محبة وخوفا ورجاء، وقوله أسألك بكل اسم إلى آخره توسل إليه بأسمائه كلها ما علم العبد منها وما لم يعلم وهذه أحب الوسائل اليه فإنها وسيلة بصفاته وأفعاله التي هى مدلول أسمائه، وقوله أن تجعل القرآن ربيع قلبي ونور صدرى تضمن الدعاء أن يحيي قلبه بربيع القرآن، وأن ينور به صدره فتجتمع له الحياة والنور قال تعالى (أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها). ولما كان الصدر أوسع من القلب كان النور الحاصل له يسري منه إلى القلب لأنه قد حصل لما هو أوسع منه ولما كانت حياة البدن والجوارح كلها بحياة القلب تسري الحياة منه إلى الصدر ثم إلى الجوارح سأل الحياة له بالربيع الذي هو مادتها ولما كان الحزن والهم والغم يضاد حياة القلب واستنارته سأل أن يكون ذهابها بالقرآن فإنها أحرى أن لا تعود وأما إذا ذهبت بغير القرآن من صحة أو دنيا أو جاه أو زوجة أو ولد فانها تعود بذهاب ذلك». * المشرف على الدعوة والإرشاد في المدينة النبوية وخطيب جامع الخندق [email protected]