هنا جدة .. الزمان .. متوقف لأن عقاربه منهكة. المكان .. البحر، والحارات العتيقة، زحمة الأزقة، الرصيف الحزين إلى جوار شجرة النيم التي كان يغني لها فتميل على جنبها اليمين. الحدث .. انتهاء الحكاية وغياب الحاكي. تقول جارتي الحلم أنها شاهدت نورسا عجوزا يلملم أسراره وأحزانه، كان يحلق عاليا ويعود للشاطئ وكأنه كان ينتظر أحدا ما .. ولكن لا أحد هناك حيث كان ينظر. تقول: كان صوته يشبه الموال الحزين، كتنفس مريض وصل به المرض لليوم الأخير وهو يشاهد من حوله يخفون نبضهم الموجوع. حكاية (الدياب) مع الناس والأماكن حالة نادرة من الصعب التنبؤ بها أو كتابتها مسبقا لأنها تشبه هطول المطر الذي يأتي فجأة لا تسبقه مقدمات الطبيعة .. فهو عندما يلامس وجهك لا تلبث أن تستسلم له ليغسل روحك ويجعل منك نبتة عطرة في أرض قاحلة. تنتظره مساء في نفس المكان .. على ذات الطاولة التي حفظت كل حكاياته ليخرج عليك من بين الزحام بمشيته الهادئة وكأنك تلمح سفينة تستقبل بصدرها دلال الموج. هنا تحاول نقش اسمك إلى جوار اسمه لتبدأ علاقة مع الماضي الذي لم تسكنه والحاضر الجميل في ضحكته. هو الوحيد الذي يأخذك بيدك عبر حكاياته للأمس وكأنه يفتح بين يديك ألبوما يخصه وحده. هو الوحيد الذي يمتلك خيوط الأزمنة ويستطيع تحريكها بحرفية عالية نعجز عن مجاراته فيها، فهو عندما يكتب أو يتحدث عن الماضي يخرج من الحاضر ويسند ظهره على سور مدينته، ورائحة البحر تعبق في المكان، وأصوات النوارس تسابق السفن القادمة من خلف أشعة الشمس. وبعد الغياب .. ما زلنا ننتظره.. فكما كان الغياب مؤلما فها هو الانتظار أكثر حرقة .. لأنك تعلم أنك ستكون وحيدا سوى من بعض الذكريات التي تتسابق للظفر بك. حقا لقد صدقت نبوءته عندما كتب ذات زمن جميل ساعة الحائط تدق مرتين .. مرة عند مولد روحه والأخرى عندما خرج مودعا دروب الحياة. الدياب لم يكن مجرد كاتب امتهن الكتابة الجامدة بل كان مساحة من ضوء شفاف تخترقنا كل صباح ونحن نشرب قهوتنا فتبعثر ما تبقى فينا من ظلام ليلة فانية. عندما يكتب فإنه يقدم وصفة مكتملة الإنسانية.. في كل مرة نقرأوه ينتشلنا من أزماتنا، لأنه يرتدي ثوب الأب العطوف، والصديق الوفي، والحبيب الصادق. حتى وهو يكتب ويتحدث عن أحجار مدينته وجدرانها ورائحة البحر والأشرعة تشعر أنه يعانق جسد أنثى فاتنة غسلت جدائلها بعطر السهر وارتدت حلة من نور. في روايته الأخيرة (مقام حجاز) التي سابق من أجلها الأيام ليتمها أراد أن يكون استثنائيا وهو يودع عروسه.. وكأنه من خلال هذا العمل المكتظ بالحنين حاول أن يشرح لمدينته الأنثى أنه ما كان بوده البقاء بعيدا عنها .. فهو يعلم أنها ستبكيه طويلا .. لذلك كتب في مقدمة المقام: «أن المدن تصمت ولكنها لا تنسى».. الراوي الذي أنهى حكايته باكرا والكل ينتظر نهاية كلاسيكية تريح قلوبهم خرج من خلف ستار الحياة كغروب الشمس الذي ننتظره طويلا ولكنه يعبر سريعا .. لوح لنا من بعيد ومضى. وداعا أبا البنات .. وداعا يا عمدة القلوب. فضاء.. آت.. يحررها: خالد قمّاش للتواصل: [email protected]