الآن وقد تولى صاحب السمو الملكي الأمير نايف بن عبدالعزيز ولاية العهد، وأسندت إليه تلك المهمة الجليلة ليكون اليد اليمنى لخادم الحرمين الشريفين.. الآن أجد من المناسب أن نستذكر معا بصمات سموه في الملف الأمني عبر وزارة الداخلية، لأن نجاحه في المهمة الأولى مؤذن بنجاحه في الثانية، ولاسيما أن نجاحه كان نجاحا منهجيا ولم يكن نجاحا موضعيا، بمعنى أنه كان يسلك منهجية ناجحة حيثما طبقت. لقد تولى سموه ملف وزارة الداخلية مدة استمرت 36 سنة منذ صدر المرسوم الملكي بتعيينه وزيرا للداخلية في 8/10/1395ه، والمتابع للعطاءات الأمنية لهذه الشخصية الفذة يجدها تندرج في ثلاثة مسارات، هي: المسار الإداري التقنيني: فسموه متع الله به أطول وزراء الداخلية العرب عمرا في الوزارة، وقد أتاحت له هذه المدة الطويلة أن ينقل الوزارة نقلة نوعية، وقد شهدت وزارة الداخلية في عهده العديد من التطورات، والقفزات التنظيمية الإدارية، كما كان سموه وراء إقرار إنشاء «مجلس وزراء الداخلية العرب»، وذلك خلال المؤتمر الثالث لوزراء الداخلية العرب الذي عقد بالطائف سنة 1980م، ثم استمرت جهود سموه في خدمة المجلس وتطويره إلى أن أصبح مؤسسة دائمة من مؤسسات الجامعة العربية، مما حدا بأعضاء المجلس إجماعا إلى اتخاذ قرارهم رقم 11/د-15/12/1982، بتنصيب سموه رئيسا فخريا للمجلس. وفي السياق التقنيني يذكر لسموه أنه كان رئيس اللجنة التي شكلها الملك فهد، رحمه الله، وتولت وضع «النظام الأساسي للحكم»، الذي صدر عام 1412ه، هذا النظام الذي يمثل ضمانة أمنية رفيعة المستوى نظرا لشموله ودقته وإحكامه. المسار العلمي البحثي: ويكفي سموه مبادرته التاريخية بعرض تبني المملكة الكامل لقرار المؤتمر الثاني لقادة الشرطة والأمن العرب، القاضي بإنشاء معهد عربي للبحوث والدراسات الشرطية، ثم مبادرته بالدعوة لتطوير هذا المشروع، ليتضمن البحوث الخاصة بالدفاع الاجتماعي ضد الجريمة والتدريب، وفي الدورة الرابعة عشرة لمجلس وزراء الداخلية العرب المنعقدة في تونس خلال الفترة من 4 5/1/1997، تم تغيير مسمى المركز العربي للدراسات الأمنية والتدريب إلى: «أكاديمية نايف العربية للعلوم الأمنية»، وذلك اعتراف من مجلس وزراء الداخلية العرب بالجهود القيمة التي يبذلها صاحب السمو الملكي الأمير نايف بن عبدالعزيز في بناء وتطوير المسيرة العلمية للعمل الأمني العربي المشترك. واستمر سموه في تعضيد الدور العلمي والبحثي لهذه الأكاديمية حتى تأهلت لأن تكون جامعة، وبذلك أصدر مجلس وزراء الداخلية العرب في دورته الحادية والعشرين في تونس عام 2004م قراره رقم «407» متضمنا تغيير اسم الأكاديمية ليصبح «جامعة نايف العربية للعلوم الأمنية». ومنذ ذلك الوقت وهذه الجامعة تعد الرائدة في العالم العربي في أبحاث الأمن والجريمة. وقد زاد عدد الرسائل العلمية التي أعدها طلاب الجامعة عن 500 بحث للماجستير والدكتوراة، فضلا عن خريجي الدبلوم، والدورات التربوية. وإضافة إلى ذلك أنشأ سموه «جائزة الأمير نايف بن عبدالعزيز آل سعود للسنة النبوية والدراسات الإسلامية المعاصرة»، وقد دارت جملة غير قليلة من محاور هذه الجائزة حول موضوعات لها صلة بالأمنِ، ومن ذلك على سبيل المثال الموضوعات المقترحة للدورة السابعة القادمة، حيث كان من موضوعاتها: أحاديث الفتن وأشراط الساعة بين الفهم الصحيح والتأويلات، والمواطنة في الإسلام واجبات وحقوق. المسار الشمولي: فسموه لم ينظر إلى الأمنِ من زاوية واحدة فقط، بل أدرك بثاقب نظره أن الأمن لا يمكن أن يستقر إلا إذا نظر إليه نظرة شمولية، ومن هنا برز مصطلح «الأمن الفكري»، الذي يعد سموه أكبر دعاته، بل أسس، حفظه الله، كرسي الأمير نايف بن عبدالعزيز لدراسات الأمن الفكري، وطبق ذلك عمليا عبر «حملة السكينة»، التي أطلقها بين المعتقلين في القضايا الإرهابية. كما التفت سموه إلى الأمنِ الأخلاقي باعتبار الأخلاقِ كابحا مهما من كوابح الجريمة، وفي هذا السياق عزز دور هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ووقف معها، وطور هيكلياتها وأنظمتها، وحرص غاية الحرص على تدريب منسوبيها ليؤدوا دورهم بالشكل الأمثل. بالإضافة إلى كرسي الأمير نايف لدراسات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة. وفي سياق هذه المسارات الثلاثة، كانت تجربة المملكة في محاربة الإرهاب، وهي التجربة الفريدة التي كانت محل تقدير دول العالم كافة، وقد أشاد بهذه التجربة مجلس الأمن الدولي عام 2007م، حيث ثمن الجهود السعودية في تأهيل ومناصحة الموقوفين، ودعا إلى تعميمها عالميا، كما أن وزير الخارجية الماليزي قد صرح في شهر ذي الحجة من هذا العام بأن «التجربة السعودية في مكافحة الإرهاب نموذج عالمي يحتذى به، مؤكدا رغبة بلاده في الاستفادة من هذه التجربة الرائدة في تطوير قدرات الأجهزة الأمنية في ماليزيا لمواجهة الإرهاب والجريمة المنظمة». وقد قامت هذه التجربة على ثلاثية: الوقاية، والعلاج، والرعاية. وعند تأمل هذه المسارات الثلاثة يتضح لك عزيزي القارئ ما قررته في صدر كلامي من أن نجاح سموه هو نجاح منهجي، فالتعويل على البحث العلمي، وتمتين البنية الإدارية، والشمولية في معالجة القضايا هي أركان النجاح لكل قيادي مهما كان موضعه ومجال عمله، وإذا أضفت إلى ذلك ما تتمتع به شخصية سموه من حزم وفاعلية وعزم ومعرفة بالرجال أدركت أن بلادنا العزيزة مقبلة، بإذن الله، على مرحلة جديدة يتواصل فيها النجاح، وتتعاظم فيها الإنجازات. وفق الله سموه لكل خير. بكري معتوق عساس مدير جامعة أم القرى