مع وضعيات التراجع الحضاري في الأمة، إلا أن المواقف المناصرة للعقل والعقلانية لم تنقطع أو تتوقف عن ساحة المسلمين، لكنها لم تكن الأرفع صوتاً، والأكثر حضوراً وتأثيراً. ومن أبرز هذه المواقف التي لفتت الانتباه في العصر الحديث، موقف الشيخ محمد عبده الذي أصبح قطبا في كتابات المؤرخين والمفكرين المعاصرين حول العقل والعقلانية في الإسلام، فقد عده الدكتور إبراهيم مدكور في كتابه (في الفلسفة الإسلامية.. منهج وتطبيقه)، من أنصار المذهب العقلي، وأنه بذل جهوداً كثيرة في التوفيق بين النقل والعقل، وبين الدين ومستحدثات العلم. ومن شدة حضور خطاب العقل في كتابات الشيخ محمد عبده، اعتبره الدكتور عبدالله العروي في كتابه (مفهوم العقل)، أنه لا يكاد يكتب صفحة واحدة دون أن يستعمل كلمة عقل أو كلمة مشتقة منها (عقلي، تعقل، معقول، عقلاني، إلخ)، أو مرادفة لها إما بكيفية واضحة مثل استعمال كلمات (نظر، تفطن، تأمل، تدقيق)، وإما بكيفية خفية مثل استعمال كلمات (حكمة، عدل، نظام..). وقد كشف الشيخ محمد عبده عن نزعته العقلية وبوضوح كبير في كتابه (الإسلام دين العلم والمدنية)، وتحديداً عند حديثه عن أصول الإسلام التي أعطاها مضامين عقلية، وجعل من العقل مكوناً بنيوياً فيها، إذ اعتبر أن النظر العقلي لتحصيل الإيمان هو الأصل الأول، وحسب شرحه: فأول أساس وضع عليه الإسلام هو النظر العقلي، والنظر عنده هو وسيلة الإيمان الصحيح، فقد أقامك منه على سبيل الحجة، وقاضاك إلى العقل، ومن قاضاك إلى حاكم فقد أذعن إلى سلطته، فكيف يمكنه بعد ذلك أن يجور أو يثور عليه؟ لكن هذه النزعة العقلية في ظل وضعيات التراجع الحضاري أصابها الالتباس، وتعرضت لحصار ضيق عليها فرص التأثير والامتداد، وتناولتها الألسن والأقلام بالذم والقدح، بتغليب جوانب الضرر على جوانب النفع، وبشكل يقطع الطريق على الاستفادة من منافعها ومكاسبها. ولا أدل على ذلك ما أشار إليه الشيخ عبدالحليم محمود في كتابه (الإسلام والعقل) بقوله: لا مناص من الإقرار بأن مدرسة الشيخ محمد عبده، أنها هي مدرسة اعتزالية في مبادئها وأصولها، وهي مدرسة اعتزالية في غاياتها وأهدافها، ذلك أنها تضع قضايا الدين في ميزان عقلها، فتنفي وتثبت، حسبما تقتضيه الأهواء والنزعات. والمدرسة العقلية في الدين، أيا كانت وفي أي مكان وجدت، وفي أي زمان نشأت، لم تسجد لله سجود خضوع وإذعان، وإنما سجدت للعقل، وعبدت العقل فتفرقت إلى ما لا يكاد يحصى من الفرق. مع ذلك بقي في الأمة من يناصر العقل، بدافع من الدين كتابا وسنة، وظل هذا الموقف سائدا مع ما أصاب الأمة من تراجع حضاري. [email protected] للتواصل أرسل رسالة نصية sms إلى 88548 الاتصالات أو 636250 موبايلي أو 737701 زين تبدأ بالرمز 115 مسافة ثم الرسالة