ذكرت في المقالة السابقة أن المثقفين في المجال العربي، الذين اتصلوا بفكرة العقلانية في الثقافة الأوروبية، برروا هذا الموقف بثلاثة عناوين، اتخذوا منها ذريعة لإكساب هذا الموقف تقبلا ومشروعية عندهم، وتحدثت في تلك المقالة عن عنوانين. وبقي الحديث عن العنوان الثالث، والذي يتحدد في عنوان العقل الكوني، ففي نظر هؤلاء المثقفين أن علاقتهم بفكرة العقلانية في الثقافة الأوروبية هي علاقة بعقل كوني، ويراد بهذه الكونية أحد أمرين أو هما معا، الأمر الأول أن الكونية هي من طبيعة العقل، فالعقل هو العقل في كل زمان وفي كل مكان، وفي كل الثقافات والحضارات القديمة والحديثة، لا يختلف ولا يتغير من حيث الماهية والطبيعة. والأمر الثاني أن امتداد الثقافة الأوروبية في مجتمعات العالم، مكنها من إعطاء العقل بعدا كونيا، وبشكل جعل هذه الثقافة تعبر عن عقل كوني بإمكان كل الثقافات الانفتاح عليه، والتواصل معه، في سابقة نادرا ما تحصل في تاريخ الحضارات. وأشار إلى هذا العنوان بوضوح كبير، الدكتور عبد الإله بلقزيز في كتابه (أسئلة الفكر العربي المعاصر) الصادر سنة 2001م، حين فرق بين ما أسماه العقل الديني في الثقافة الإسلامية، وبين ما أسماه العقل الكوني في الثقافة الأوروبية. فحين تساءل بلقزيز كيف عاش الفكر العربي المعاصر علاقته بالعقل كأداة وكفعالية وكمرجع؟ أجاب بقوله: إن العرب لم يصطدموا بسؤال العقل حديثا، فقد خاضوا في شؤون العقل منذ العصر الكلاسيكي للثقافة العربية، وقدموا مساهمتهم حوله في أعلى درجات تمظهرها في الرشدية، التي ذهبت بالعقل إلى مستوى الصيرورة سلطة مرجعية عليا في الثقافة الإسلامية آنذاك، محررة إياه من الحجر الفقهي المتزمت، ومعيدة الاعتبار إلى الفلسفة بعد أن نالت منها سهام فتوى التكفير الغزالية. على أن هذا العقل الفلسفي الإسلامي الذي كرسته الرشدية في التراث النظري العربي الوسيط، لم يكن في نظر بلقزيز أكثر من عقل ديني، وهذا العقل ليس هو ما يعنيه في التساؤل الذي طرحه، وما يعنيه هو عقل آخر. وحسب قوله، وبنص عبارته: هو العقل الكوني أي العقل الديكارتي الذي قامت على أعمدته ثقافة أوروبا الحديثة التي تعممت قيمها، خارج جغرافيتها الترابية واللغوية والثقافية الأصل، لتصير الثقافة الكونية المسيطرة، وتصير عنوان الحداثة الفكرية. هذا العقل هو الذي وضع الفكر العربي، والمجتمع العربي التقليديين، أمام تحد ضخم، وكان مناسبة لامتحان قابلية الوعي العربي للتكيف النظري والتجدد المعرفي. ولم يكتف بلقزيز بهذا القدر، فقد ظل يرجع ويكرر الحديث عن العقل الكوني قاصدا به العقل المتولد عن الثقافة الأوروبية، وممتدحا الذين لم يترددوا حسب قوله في الانتظام في العقل الكوني، ومدافعين عنه لتعميم قيمه في الثقافة العربية. هذه هي تقريبا صورة الموقف عند هؤلاء المثقفين في تبرير انحيازهم وتعلقهم بفكرة العقلانية في الثقافة الأوروبية، وهذا الموقف بحاجة إلى نقد ومراجعة من هؤلاء المثقفين قبل غيرهم، لأنه يحتوي على تضليل خادع، يحاول الإيماء والادعاء بأن لا طريق لفكرة العقلانية إلا بالعودة للثقافة الأوروبية، وبشكل يقطع الطريق على البحث عن منابع العقلانية في الإسلام والثقافة الإسلامية. [email protected] للتواصل أرسل رسالة نصية sms إلى 88548 الاتصالات أو 636250 موبايلي أو 737701 زين تبدأ بالرمز 115 مسافة ثم الرسالة