بعد أن اختفت الموروثات الشعبية القديمة، إلا أن العم محمد بن مشرف العمري، الذي شارف على الثمانين من عمره، يتمسك ببعض من التراثيات ويزاول نشاطه من خلاله، تلمحه في سوق المخواة القديم واقفا خلف طاحونته دون ملل ومتنقلا بخفة ورشاقة الشباب بين اثنين من المكائن، في ذات الوقت لا يمنعه عناء العمل من استقبالك ببشاشة معهودة ولطف وود ظاهرين يشبعان النفس بصبر يحول بينك والكلل على كل تأخير في الطحن. التقيته في حوار خاطف وسط ضجيج صوت المكائن وانشغاله بطحن الحبوب وكيلها بمكيال قديم يحتضنه أحد تلك القصاع التي تحتل جانبا من دكانه القديم، فسألته عن سنوات ممارسته لمهنته، فقال: لا أعرف بالضبط، لكني أعتقد تجاوزت الأربعين عاما. ويتحدث عن أنواع الحبوب التي يقوم بطحنها ما بين الدخن والحنطة والذرة والحمرية، قائلا إنه يبيعها بسعر السوق، وهي الأكثر رواجا، وقديما اعتمدنا على بيع الحبوب التي كانت تزرع وتنتج محليا، إلا أنها لم تعد موجودة اليوم أو أي أثر لها يذكر، ومنها الدقسة والسيال، في حين لم تعد مطلوبة بعض الحبوب الأخرى رغم أنها لم تختف ومنها (المقتصرة والبيضاء والشعير)، بجانب قلة الإقبال على (الذرة والخرمان)، حيث لم يعد يتناولها سوى كبار السن بسبب التغير في أذواق الناس وما يفضلونه من أطعمة. ويواصل سرده عن تلك الحبوب بلغة الخبير قائلا: من الدخن ما يسمى المساقي والعثري، وذلك بحسب طريقة الري، فالحب المساقي هو الذي يسقى عن طريق الآبار والعثري هو الذي يعتمد على الري بالأمطار. ويفرق العم محمد بين دخن الخريف ودخن الصيف بحسب موسم الزراعة، مشيرا إلى أن الإقبال ما يزال كبيرا على دخن الخريف الذي يزرع في وادي هوران أحد الأودية القريبة في نواحي المخواة وكذلك الذي يزرع في وادي لومة إلى الغرب من وادي الأحسبة الشهير (جنوب المخواة). وعن مدى رواج تجارته الآن يقول: في الماضي كانت المكاسب المادية كبيرة جدا لأن الناس كانوا يعتمدون في غذائهم على المنتج المحلي، حيث إن كل الأسر تقوم بإعداد العصيد والخبزة والقرصان بأنواعها في المنازل، أما اليوم فقد اختلف الوضع كثيرا عن ذي قبل، فالمخابز الإلكترونية جعلت الأكلات الشعبية في مهب الريح، وهذا أضر بتجارتنا كثيرا. ويؤكد العم محمد أن هناك عاملا آخر جعل من المردود المادي لتجارته أضعف من ذي قبل وهو نقل السوق الشعبي إلى شرق المحافظة حيث تضررت التجارة في السوق القديم. ورغم ذلك ما زال العم محمد يحافظ على هذه المهنة التي أحبها ويمارسها من أجل التسلية لأنها كما يقول أضحت جزءا من حياته وكانت عونا له بعد الله على مواجهة الحياة. ويسترسل قائلا: لهذه الطواحين فضل بعد الله علي، فمنها ربيت وعلمت أبنائي الذين شقوا حياتهم العملية في مجالات مختلفة فمنهم المعلم والموظف، لذا سأحافظ عليها ما دمت قادرا، وسأظل وفيا لها حتى الممات بغض النظر عن المكاسب المادية في هذه الفترة. وعن هجمة العمالة الأجنبية، يقول العم محمد إنه الوحيد في المخواة حاليا الذي يمارس هذه المهنة، حيث كان في السابق العديد من المطاحن المعروفة، والتي يشتغل عليها السعوديون من أقراني، منها مطحنة خضر الشدوي، ومطحنة قشران يرحمه الله، ومطحنة سعيد محمد العباد يرحمه الله، ومطاحن العياش، وعلي قلبه، وبن ماشي، وكان هؤلاء يديرون المطاحن بأنفسهم، ولكن تركوها إما للوفاة أو كبر السن لتحل مكانهم العمالة الوافدة في السوق دون معرفة أو إدراك بأنواع الحبوب ما أدى إلى تشويه سمعة السوق. وعن الأسعار يقول إن الدخن هو الأغلى بين مختلف الحبوب حيث يبلغ سعر المد ما بين 100-150 ريالا، مشيرا إلى أنه يرتفع غالبا في مواسم رمضان وعيد الأضحى، وخصوصا الدخن الذي يشهد إقبالا كبيرا من المواطنين مع قرب حلول رمضان لأنهم يفضلون الأكلات الشعبية المصنوعة من طحين الدخن ومنها الثريد. ويبصر العم محمد بصيصا من الأمل في انتعاش سوق المطاحن باعتبار أن الدخن لا يدخل فقط في صناعة الخبز والقرصان والمسيلات كما تسمى في المخواة، بل هناك تحول من قبل النساء نحو صناعة الكيك والمعجنات بالدخن، متمنيا أن يتنامى هذا التوجه.