كانت أوامر الملك عبدالله يوم الجمعة 18 مارس مفاجأة لم يتوقعها أكثر المتفائلين، ولكنها رغم ضخامتها جاءت منسجمة تماما مع سياسة إصلاحية انتهجها وعرف بها الرجل الأول في السعودية، ولا أبالغ لو قلت بأن كل عائلة سعودية استفادت بشكل أو آخر من هذه الأوامر، وأنها في حال تنفيذها تكون قد خاطبت بصورة مباشرة هموم وتطلعات ومشاكل شريحة واسعة في المجتمع السعودي، والشاذ لا حكم له، وأقصد حراس المصالح الخاصة وبعض الشخصيات المأزومة أو المشغولة بالتفاصيل غير المهمة أو غير المقنعة حاليا، أو من يحاولون المتاجرة بمعاناة الناس لتحقيق أو فرض رغبات سياسية لا تتجاوز محيطهم الصغير، وهؤلاء في حساب المجموع ليس لهم تأثير حقيقي على الأرض. قرأت أن القيم والاعتبارات الاجتماعية تحكم بناء أخبار الإعلام، وأسلوبها في العرض وترتيب الأولويات، بل وحتى في اختيار الكلمات المناسبة لعناوين المادة المتلفزة أو المطبوعة، وأن مستوى ما يتمتع به المصدر من مصداقية وثقة يلعب دورا مهما فيما سبق، والمعنى أن القيمة أو الوزن الأخباري لما يقوله مسؤول ثقيل أو خبير متمرس لا يقارن منطقيا بكلام شخص أو شخصين أو ثلاثة في الشارع أو في المحطات المؤدلجة ومواقع الإعلام الاجتماعي والمنابر الإلكترونية، أو هكذا يفترض، ومن الأدلة أن تلفزيون «بي.بي.سي» في نسخته المحلية على الأقل، يلتزم بأخلاقيات صحافية في نقل مواده المتلفزة، ويحرص دائما على التثبت من مصدر مستقل وموثوق قبل تقديمها للجمهور البريطاني، وأنه ربما علق الخبر أو ركنه على الرف مالم يتوفر هذا الشرط، والنوعية المذكورة قبل «بي.بي. سي» قد تهمش الأحداث أو لا تضعها في إطارها الصحيح، أو كما قال البروفيسور جاستن لويس في كتابه: بنية الرأي العام (2001) وهذا التصرف له أسباب عاطفية، من بينها، أن الحدث نفسه لا يخدم مشروع أصحاب الرأي المخالف أو لا يتفق مع خطهم الأيديولوجي وقناعاتهم أو حلولهم الشخصية. من هنا فقد لفت انتباهي في الأوامر الملكية الكريمة وبحكم التخصص، ما نص منها على تقييد النقد الإعلامي لسماحة المفتي العام وهيئة كبار العلماء، ومراجعة نظام المطبوعات والنشر وهو فعلا يحتاج إلىها، وبالذات في باب المخالفات والعقوبات الإعلامية، وأيضا التشهير بالتجار المتلاعبين في أسعار السلع الاستهلاكية، وأرى أن الأوامر الملكية وفقت وبدرجة كبيرة في الوقوف على تجاوزات سابقة ومعروفة مارسها الإعلام، وأحيانا بدون مناسبة أو أمانة أو حيادية في الطرح، ضد الأسماء الدينية البارزة، ووصل الأمر إلى حد تعمد الأذية، وترتيب حملات إعلامية منظمة، والتلاعب بالتصريحات ووضعها في سياقات لا تربطها علاقة بالخبر موضوع التصريح، وشخصنة الأخبار وافتعال أزمات لا وجود لها إلا على الورق أو في المقاطع التلفزيونية المبتورة والممنتجة، وشحن الرأي العام محليا ودوليا بأفكار مشوهة عن المؤسسة الدينية في السعودية، وكتب البروفيسور دينس ماكويل في كلامه عن القيمة الأخبارية (2000) أن الإعلام يستثمر في المواد المربحة جماهيريا، ويعمل باستمرار على تكرارها، ولا يغير في ذلك كونها مخالفة للواقع أو متخيلة، لذا فلا بد من ضوابط وحدود، واقترح إقرار تشريعات تتناول كل حالات التجاوز المحتملة إعلاميا في الداخل السعودي، وأن تراجع وتعدل ويضاف عليها دوريا، والأفضل أن يستفيد الإعلام السعودي من تجارب دولية لها خبرة طويلة في مجال تقنين الممارسات الصحافية كالموجودة في بريطانيا على سبيل المثال، ثم أن التشهير بالمتلاعبين في الأسعار، أيا كانوا، يجعل كل تاجر يراقب خطواته، ويقدم مصالح زبائنه على مصالحه، ليس حبا فيهم ولكن خوفا من الفضيحة الإعلامية، وما قد ينتج عنها من سمعة تجارية سيئة تضره ماليا ومعنويا. التشهير يكرس الوظيفة الاجتماعية للإعلام ويؤكد دوره كسلطة رابعة، ولا خلاف حول الحرية المسؤولة كمبدأ أصيل ومطلوب في العمل الصحافي، إلا أن الحصانة الممنوحة للرموز الدينية المحددة أسما ووصفا في الأمر الملكي ضرورية جدا، فالدين ممثلا في سماحة المفتي وهيئة كبار العلماء، يختصر جزءا أساسيا وحيويا في تكوين الوطن وتاريخه القريب والبعيد، والأهمية تكبر مع بروز موجة طائفية لا تسر مؤخرا، واجتهادها العجيب للتشكيك في سلامة منهج أهل السنة والجماعة، والسير على هوى هذا التيار يربك الأمن والسلم الاجتماعي، ولا تكفي الأمنيات الطيبة ووجاهة التبريرات وحدها لإثبات نزاهة الفعل، أو للإقناع بتغييب الصورة الكاملة والإصرار على حقيقة واحدة أو مسار معين وتجاهل بقية المسارات، خصوصا في القضايا الحساسة والخطيرة، والمفروض في الأحوال المثالية أن لا يمارس الإعلام وصاية على عقل المشاهد أو القارئ، ولا يتكلم باسمه أو يحرضه على ارتكاب حماقة أو مخالفة يعاقب عليها القانون، وإنما يترك له الحرية لبناء موقفه المستقل مالم يتعارض مع ثابت ديني أو اجتماعي أو قانوني. ما ذكر بالتأكيد لا يعني أن كل المؤسسات ذات الصبغة الدينية أو شبه الدينية خارج دائرة النقد، لأن الأمر الملكي في محتواه المنشور كان محصورا في سماحة المفتي وهيئة كبار العلماء فقط، وبالتالي فالقضاء وهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغيرها لازالت مجالا مفتوحا للنقد المعزز بالأدلة والإثباتات، وليس النقد المشبوه أو الاعتباطي والمزاجي. [email protected] للتواصل أرسل رسالة نصية sms إلى 88548 الاتصالات أو 636250 موبايلي أو 737701 زين تبدأ بالرمز 107 مسافة ثم الرسالة