ذرع خريطة العالم بالطول والعرض، حتى استوطن الأسواق كغول يؤرق مضاجع الكيانات الاقتصادية، ملتحفا أكشاك الأرصفة، قبل الولوج إلى أعتاب المتاجر والمراكز التجارية الكبيرة. وبدون مبالغة امتدت سطوته إلى عريسين، فكرا طويلا باستئجار فستان وخاتم الفرح، قبل حجز قصور الأفراح، وشراء الذبائح للمعازيم، فلا عجب إذا سمعت أنه السارق الذي سرق الكحل من عيني عريس وعروسته في ليلة فرحهم، باختصار إنه (التضخم) الذي يجلد الفقراء بسوط الأسعار، ويهش على الأغنياء بعصا الرسوم والضرائب، حتى تلهث الألسن وتشحب كل الوجوه الضامرة من قلة الموارد وجور الأيام. «عكاظ» تجولت في عدد من أسواق عروس البحر الأحمر (جدة)، وركزت على أربعة أسواق بشكل مباشر، هي سوق الذهب، وأسواق المواد الغذائية، وأسواق مواد البناء، والعقار، وتوجهت إلى مائة متسوق من مرتادي تلك الأسواق وزبائنها بالسؤال عن أسباب ارتفاع أسعار السلع بدون كابح، ومن يتحمل هذا الارتفاع من وجهة نظرهم ؟ بداية، أطلق خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز الأسبوع قبل الماضي حزمة من القرارات التنموية المحفزة، التي من المقدر لها أن تضخ أكثر من 139 مليار ريال، جاءت لتصب مباشرة في الحياة المجتمعية للمواطن السعودي، بدءا من المسكن إلى الترفية، مرورا بالتعليم والضمان الوظيفي، ومن المقرر أن تؤدي هذه الخطوات مفعولها بشكل أسرع، كحل جذري لمشكلات التضخم، البطالة، والفقر، لكونها اتجهت مباشرة إلى حل هذه المشكلات، وليس إلى تفادي الآثار المترتبة والمتوقعة من نشوء هذه الظواهر، وذلك عندما جاءت كرافد مستقل، عن ما تضمنته الموازنة العامة للدولة من العام المالي 1432 إلى 1433 ه. إلى جانب أنها لن تمر من خلال مشاريع البنية التحتية، ما يعني أنها سوف تصل إلى المواطن مباشرة وبميزة السرعة، ولم تأت عن طريق شركات خاسرة، ولم يكن الهدف منها إنعاش قطاع معين، أو إيقاف تآكل رأس مال شركة معينة، أو تلافي عجز صندوق من صناديق الدولة عن تأدية عمله، بل الهدف منها واضح وجلي وهو تدعيم إضافي لهذه القطاعات، التي تنعكس على تنمية الحياة المجتمعية للإنسان السعودي، ما يجعله يعيش حياة كريمة، فتثبيت بدل المعيشة في الراتب الأساسي للموظف، يجعل استفادته من هذا التثبيت تمتد إلى ما بعد إحالته للتقاعد، إضافة إلى زيادة رواتب الموظفين في قطاعات الحكومة والمؤسسات التي تقدم الخدمة الاجتماعية مثل الأندية الرياضية والأدبية والجمعيات التعاونية. لكن يبقى السؤال العريض الموجه إلى المواطن السعودي في حال وصول هذه الأموال إليه: إلى أين سيوجهها، وهل سينفقها في متطلبات حياته المعيشية، أم إلى الاستهلاك والترفية أم إلى الاستثمار وتنمية دخله ؟ أنواع التضخم في البداية أرجع 60 في المائة من مجموع المتسوقين والمتسوقات الذين شملتهم الاستبانة، مسؤولية التضخم وارتفاع الأسعار بشكل جنوني، إلى النزعة الاحتكارية للتجار وموردي وموزعي المواد الغذائية والسلع الاستهلاكية، واستغلال شبه الغياب للجهات الرقابية. وعلى العكس في سوق الذهب، يرى المتسوقون أن أسباب ارتفاع الأسعار في سلعة الذهب يعود إلى (التضخم المستورد)، الذي يبدأ في بلد المنشأ أولا، ويصبح لزاما على التجار المحليين استيراد سلعهم بالأسعار الجديدة، إضافة إلى انخفاض العملة المحلية أمام عملة البلد المصدر، ما يسبب ضعف القوة الشرائية للعملة الوطنية، لتصبح غير قادرة على الشراء من الخارج. أما في سوق مواد البناء، فيرون أن الانتعاش الاقتصادي الكبير، الذي يؤدى إلى زيادة الطلب على السلع والخدمات هو ما أدى إلى رفع أسعار السلع حسب نظريات الطلب والعرض التقليدية. أطراف المسؤولية احتلت وزارة التجارة، في نظر المتسوقين، المركز الأول من بين الجهات الرسمية المسؤولة عن التضخم ومعالجته، وجاءت وزارة المالية ومؤسسة النقد العربي السعودي (ساما) في المركز الثاني، تليها وزارتا العمل والاقتصاد. وعلل 55 متسوقا، ومنهم محمد الغامدي، وياسر النهدي، وعتيق الحربي، وإلهام بخاري، وفايزه الشمراني، أسباب ربطهم وزارة التجارة بمسؤولية ارتفاع الأسعار بقولهم «إن من مهمات وزارة التجارة والصناعة التأكد من توفير السلع المطلوبة لأجل المستهلك، أو توفير بدائل لهذه السلع، وحماية روح المنافسة بين التجار، وعدم تحكم البعض في السوق، والتأكد من وجود مخزون كاف للسلع الاستهلاكية، مشيرين إلى أن هناك حالات حدثت في كثير من الأسواق تؤكد مسؤولية الجهات المعنية في هذا الشأن، مستشهدين بما حدث في سلعة الدقيق في فترة سابقة، عندما اختفى من الأسواق مرورا بسلعة الحديد التي ارتفعت أسعاره فجأة، وانتهاء بما حدث في الأشهر القريبة من ارتفاع لأسعار الطماطم وحاليا تشهد أسواق الشعير أسعارا عالية بسبب عدم توفير بدائل لسلع الأعلاف. أما المتسوقون الذين يرون أن المسؤولية تقع على عاتق وزارة المالية، بالاشتراك مع مؤسسة النقد، ومنهم إبراهيم حبشي، وحسن الرفاعي، وملهم الصائغ، وعزيزة أحمد، وسمية عبدالله، فقالوا إن معالجة موضوع الأسعار مسؤولية الدولة بجميع أطرافها، ولكن يبدأ حل المشكلة من خلال التحكم في السيولة التي تتدفق إلى السوق سواء من الأفراد أو المؤسسات، وعلاقة الريال بالدولار، وتخفيض رسوم التأشيرات، والعمالة المنزلية. وقال عبدالله الزهراني، ونايف المالكي، وهديب العتيبي، وحسنة منصور، وأم فيصل: بكل صراحة نحن أمام مشكله مركبة، فلا نرى طائلا من استمرار تبادل التهم بين الجهات المعنية، التي تركت البحث في المشكلة الأساسية، واتجهت إلى البحث عن الآثار المترتبة على نشوء التضخم، فلو توفرت فرص للعمل، واتخذت حلول جذرية لتوقف ارتفاع أسعار العقار، وسدت الفجوة بين العرض والطلب في توفير المساكن، ربما تكون تلك الجهات، أمسكت العصا من المنتصف، حيث ساهمت في حل المشكلة الأساسية، وتلافت تفاقم آثارها مستقبلا. استئجار فستان فرح كشف ما يقارب 85 في المائة من الشريحة التي شملها الاستطلاع، أنها تنفق 90 في المائة من دخلها الشهري، على دفع إيجار المسكن، وتسديد رسوم الخدمات العامة، وأجور العمالة المنزلية، وشراء المواد الغذائية. وكان من بين المشاركين في الاستطلاع عريس وعروسته اللذين كشفا أنهما استأجرا فستان الفرح، ولمدة 24 ساعة بسعر ألفي ريال، بدلا من شرائه بسعر يتجاوز خمسة آلاف ريال، موضحين أن كثيرا من المدعوات للفرح استأجرن واستلفن الأساور والخواتم الذهبية التي سيحضرن بها حفل العرس، في حين مازالوا ينتظرون (الرفد) لشراء خراف وجبة عشاء الفرح، وهذا مؤشر يدل على سحب فوائض الادخار من الأفراد في السنوات الأخيرة. تجار العقار مضاربون أرجع المتعاملون في سوق العقار أسباب ارتفاع الأسعار، إلى عدة أسباب، في مقدمتها، الانتعاش الاقتصادي الكبير الذي يؤدى إلى زيادة الطلب على السلع والخدمات، ما يؤدى إلى رفع أسعار وتكلفة البناء. وهنا يشير المستثمر عبداللطيف العلوي بقوله إنه ليست المشكلة في الإنفاق الحكومي بحد ذاته، ولكن المشكلة في انسياب الإنفاق الحكومي ليلامس أفراد المجتمع. ويرى العقاري خضر الغامدي أن التحول من العقار السكني إلى العقار التجاري أسهم بشكل واضح في ارتفاع الأسعار، وذلك يعود إلى أن العقار التجاري أكثر، وأسرع مردودا، وهذا التوجه بدورة أسهم في انخفاض المشاريع السكنية، التي بدورها سببت قلة في المعروض مقابل الطلب، مشيرا إلى أن عدم وجود منفذ استثماري أسهم في تضخم العقار، فكثير من المتعاملين مضاربون وليسوا مستثمرين، يبحثون عن الربح السريع، والنتيجة وجود خلل في تركيبة العرض والطلب، وقال سمسار العقار محمد سعيد الزهراني «لقد أسهم اتساع رقعة الأراضي غير المخططة على شوارع رئيسة، وبداخل أحياء في وسط المدينة في وجود نقص في المعروض الذي ارتفعت على أثره الطلبات». رصد مؤشر استطلاع الجولة أن إيجارات المساكن تسجل ارتفاعات متتالية، بلغت ذروتها في عام 2008 بمعدل 19.1 في المائة، مقارنة ب 8.2 في المائة عام 2007 و18.1 في المائة عام 2009 و13.9 في المائة عام 2010، وارتفاع أسعار بعض المواد الغذائية ومنها أسعار مواد أساسية، مع مراعاة تفاوت الأسعار من متجر إلى آخر، ومن مدينة إلى أخرى حيث ارتفع سعر السكر 10 كيلو بما نسبته 62 في المائة من 25 ريالا إلى 40 ريالا، وارتفعت المشروبات الغازية 50 في المائة من 21.95 ريال إلى 32.25 ريالا، والجبن 18 في المائة من 93.5 ريالا إلى 110ريالات، والدجاج المستورد 18 في المائة من 93.5 ريال إلى 110 ريالات، وزيت النخيل 16 في المائة من 55 ريالا إلى 64 ريالا، والرز من 214 ريالا إلى 245 ريالا، وحليب طويل الأجل 10 في المائة من 29.95 ريالا إلى 32.95 ريالا. تضخم مستورد واستبعد تجار مواد البناء أن تكون أسباب ارتفاع الأسعار في سلع مواد البناء، إلى أسباب داخلية بحتة، حيث إن الأسباب الداخلية لا تتجاوز 15 في المائة، ويرون أنها تقع داخل دائرة ما يسمى (التضخم المستورد)، الذي ينشأ بسبب استيراد البضائع، بأسعار أعلى نظرا لانخفاض قيمة الدولار عالميا، وبالتالي انخفاض الريال المربوط به، فلذلك يجعل أي تراجع في الدولار أو ارتفاع لابد أن نتوقع أن يقابله ارتفاع أو انخفاض في الأسعار، إلى جانب ارتفاع أسعار النفط التي انعكست على ارتفاع أسعار المنتجات التي يدخل في تركيبتها النفط. قرارات شجاعة ويشير الباعة في محال مواد البناء إلى أن قرارات وزارة الداخلية المتضمنة التشهير بالتجار المخالفين، وإغلاق الفروع المخالفة، وتحميلها تكاليف الإعلان الذي ينشر بالصحف، ساهم في الحد من تقلبات الأسعار، واحتكار التجار للسلع، وكذلك تنظيم طرح المساهمات العقارية ساهم في عدم توجيه السيولة في اتجاه واحد، ولكن يرى المتعاملون أن غرامة المخالفة المطبقة على التجار المخالفين تحتاج إلى إعادة نظر، حيث مازالت منخفضة مقارنة، بالمكاسب التي يحققها التاجر من جراء المخالفة، ومن المفترض أن تكون المخالفة أعلى من إجمالي المكاسب التي نفذها التاجر بطريقة غير مشروعة. أسعار الذهب وأرجع المتعاملون أسباب الارتفاع في أسعار الذهب إلى أسباب عالمية 100 في المائة، ومن أبرز تلك الأسباب، من وجهة نظرهم، إقدام عدد من الدول على تحويل احتياطياتها إلى الذهب، للمحافظة على القيمة المادية الاحتياطية لها، فيما يشكل إجراء إيجابيا لتلك الدول لتخطي أي أزمات مقبلة بشكل سريع. وتتوفر في السوق المحلية حوالى ستة أصناف تبدأ من عيار 10 إلى عيار 24. وتتراوح أسعار الوحدة من 70 ريالا إلى 170 ريالا، ويبلغ سعر أوقية الذهب نحو 5261 ريالا والجنيه 1184 ريالا والكيلو نحو 169145 ريالا، يضاف إليها 10 ريالات كقيمة المصنعيه لكل كيلو جرام. الكاشير مديون وليس دائنا وأبدى عدد من موظفي (الكاشير ) في أسواق المواد الغذائية استغرابهم الشديد من الاتهام الموجه إليهم بالتلاعب في أسعار السلع وزيادتها على حساب المستهلك. وقالوا إن هذا الاتهام مرفوض جملة وتفصيلا، حيث هناك عقوبات وغرامات تصل إلى 10 آلاف ريال على الموظف الذي يرتكب مثل هذه الإعمال،إضافة إلى إن أي زيادة في الحسابات اليومية، لا نستفيد منها كموظفين، وكثير منا ليس له علاقة بإغلاق الحسابات، وبالعكس في حال نقص الدخل اليومي، يتم حسم العجز من الراتب، ونادرا ما نستلم رواتبنا في آخر الشهر كاملة، وفي أوقات إنهاء أعمالنا اليومية نجد أنفسنا مدينين للسوق. التوصيات والمقترحات اقترح عدد من المشاركين في الاستطلاع إيجاد نظم لجمعيات تعاونية في الأحياء تساهم في الحد من الغلاء عبر بيع منتجاتها بأسعار تقترب من التكلفة وتعود بالنفع على المساهمين من أهل الحي فيها. وطالب آخرون بالاستفادة من البطاقات التموينية لتمويل ذوي الدخول المتدنية. وشدد المتعاملون على أهمية تفعيل هيئة حماية المستهلك، ونشر الوعي الاستهلاكي. وكشف بعض موظفي (الكاشير ) أن الكثير من الزبائن لا يحرص على استرداد مبالغ أجزاء الريال، وغالبا ما يتم شراء تسالي للأطفال مقابلها، مقترحين أن تعود الأسر أطفالها على إنشاء حصالة في المنازل يوضع بها ما يتوفر لديهم من المصروف المدرسي اليومي، وباقي العملة المعدنية عند الشراء. وأوصى الاستطلاع بإعادة النظر في فعالية دور الجهات المسؤولة عن مراقبة الأسعار، والمسارعة في منع التداخل بين الوزارات، وتحديد الآلية التي تعينها على ضبط الأسعار، مؤكدين أن مراقبة الأسواق من المفترض أن تكون من مسؤولية وزارة التجارة، ولكنها لم تستطع تغطية مدينة واحدة، فلذلك من المفترض أن تتولى العملية جهة مستقلة قادرة على تغطية كافة الأسواق من حيث أعداد الموظفين، واتخاذ القرار حيال المخالفين بشكل فوري.