د. خالد بن عبد الله بن علي المزيني * ما يصيب البشر من مصائب ونكبات وأوبئة وكوارث هو من قبيل الابتلاء، لتدريب الناس على اتقاء المخاطر، وتعليمهم كيف يصلحون في الأرض ويعمرونها، وتلقينهم كيف يحاسبون أنفسهم ويراجعون مشاريعهم وبرامجهم، ويعاقبون المقصر والمتهاون، وليظهر المؤمن الصابر من الساخط الجازع. والابتلاء يكون أجرا للبعض وكفارة لذنوبه ويكون عقوبة وسخطا لآخرين، ولكن بعض الناس في عصرنا نظر إلى أن الأصل في بني آدم الخطأ فانصرفت أنظارهم إلى أن الابتلاء العام لا يكون إلا عقوبة، وغفلوا عن المعاني الأخرى في الابتلاء، مثل تكثير الحسنات وحط السيئات ورفع الدرجات هذا على مستوى الأفراد، وعلى مستوى الشعب والأمة يكون في الابتلاء كشف مواطن الضعف والتنبيه إلى مواضع الفساد لحفز المسؤولين على المبادرة في معالجتها وتصحيح أوضاعها ومحاسبة المقصرين. والجزم بأن هذه الكارثة أو تلك بسبب ذنوب المصابين فيه مجازفة كما سيأتي، نعم من أسبابها ذنوب الفاسدين من بعض المسؤولين الذين ينحرفون بالسلطة ولا يرقبون حرمة المال العام، وهم جديرون بالمحاسبة القضائية في الدنيا والعقوبة الربانية في الآخرة. وما حصل في مدينة جدة الحبيبة لما طغى الماء وطما السيل الجارف هو من قبيل الابتلاء بالضراء، فيكون سبيله اختبار الناس أيهم أعظم يقينا وأشد صبرا، كما أن فيه امتحان الجهات الخدمية والرقابية في الدولة، أيها يقوم بواجبه في هذه الأحوال الطارئة، وامتحان عموم سكان جدة في مقاومة هذه الأخطار وإسعاف إخوانهم والانضمام إلى صفوف المتطوعين، وكشف بعض الموظفين الذين هم يراءون ويتخاذلون ويمنعون الماعون، والأهم في هذا: التمهيد لكشف الذمم الفاسدة لدى بعض المسؤولين، الذين أسهموا في صناعة الفساد في البنية التحتية في بوابة الحرمين الشريفين، وإظهار فسادهم لدى الخاصة والعامة. سبب كوني إن الكارثة بما هي حدث كوني لها أسبابها وشروطها، وكما أن الحكم الشرعي تكون له علة واحدة أو علتان فأكثر، فكذلك الأمر الكوني قد يكون له أكثر من سبب، ومن المجازفة القول بتعيين أحد هذه الأسباب في حادثة معينة، وقد يتهور بعض الغيورين فيختار سببا يجعله عنوانا لهذه الكارثة، كما ذكر بعضهم أن السبب هو ذنوب أهل هذا الحي أو ذاك، وقد رأيت من يقترح بعض ما يظنه ذنوبا وليس كذلك، ويجعله من أسباب الكارثة، فهذا ضرب من الغرور العلمي، وعماية عن الأسباب الشرعية والكونية والظرفية، وأصل المشكلة دوما تعميم ما لا يصح تعميمه، وإلا فمن الذي يزعم أن إصابة منطقة العيص بالزلازل، أو تعرض منطقة جازان لحمى الوادي المتصدع، أو انتشار بعض الأورام في المنطقة الشرقية، أو انبساط الغبار على منطقة الرياض، أو سيول جدة سببها كذا أو كذا من الأسباب الشرعية، هذا رجم بالغيب، وأما إذا خرجت هذه الأحكام على سبيل التشفي والتهكم من المنكوبين فهذا ضغث على إبالة. وفي المقابل نجد البعض ينفي أن يكون البلاء بسبب الذنوب مطلقا، وينكر العلاقة بين الذنوب والبلاء وهذا أيضا تعميم خاطئ، فقد وردت نصوص قرآنية محكمة تفيد بأن الظلم والذنوب والانحراف عن الشريعة سبب للهلاك العام والخاص، وهي نصوص مخيفة تقشعر لها الأبدان المؤمنة، توجب للعاقل التزام الاستقامة مع الحذر من سخط الجبار سبحانه، كما في قوله تعالى: (وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد)، وقوله تعالى: (وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا وجعلنا لمهلكهم موعدا) ،وقوله تعالى: (وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولا يتلو عليهم آياتنا وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون)، ومع ذلك فالذي يظهر لي أن هذه النصوص من قبيل نصوص الوعيد، وهي نصوص زاجرة عن الوقوع في الذنوب والعصيان ولا شك، ولكن لا يلزم وقوع موجبها في كل الأحوال، فقد يتوعد الله على فعل شيء ولا يعاقب عليه لأسباب عشرة معروفة عند العلماء، وهي المعنونة عندهم بموانع إنفاذ الوعيد، وقد يقع البلاء ولا يلزم من وقوعه تعيين سببه وتعريف الناس به، فلا يمكن الجزم بأن هذا الذنب هو سبب هذا الابتلاء، لأن هذا التعيين سبيله التوقيف، والجزم بتعيين السبب بلا دليل خاص هو من قبيل الرجم بالغيب. وقوع الابتلاء وإذا وقع الابتلاء بالغرق أو الحرق أو بتلف المال والممتلكات فهذا علامة خير للمؤمن الموقن بربه، كما جاء حديث صهيب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «عجبا لأمر المؤمن، إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له»، وكما جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من يرد الله به خيرا يصب منه»، يعني يبتليه بما يرفع درجاته أو يحط من سيئاته. وهذا بالطبع لا يعني الخضوع والخنوع للمصيبة وعدم بذل الأسباب للتخلص منها، بل تعاطي الأسباب هو أحد أوجه التعبد لله عند نزول المصائب، ومن مقتضى الإيمان بالقضاء والقدر الفرار من أسباب الهلاك والضرر. وقد اختلف السلف في هذه المصائب التي تقع للناس، هل يكون مجرد حصول الابتلاء يترتب عليه تكفير الذنوب، سواء انضم إلى ذلك صبر المصاب أم لا، فذهب بعضهم إلى أن مجرد وقوع البلاء يكفر ذنوب المصابين، وأبى ذلك بعض العلماء كالقرطبي، فقد اشترط أن يصبر المرء ويحتسب، لظاهر قوله تعالى (وبشر الصابرين). والراجح والله تعالى أعلم أن من ابتلي فهو له كفارة لذنوبه وله أجر بقدر ما أصيب منه، فإن صبر فله أجر زائد على أجر من لم يصبر، وإن لم يصبر فيكون قد حاز فضيلة تكفير السيئات، إضافة إلى أجر المصيبة، فتكفير السيئات حاصل على كل حال، ولكن المصابين يتفاوتون في الأجر بقدر صبرهم، وقد روي نحو هذا القول عن أبي هريرة رضي الله عنه، وهذا من فضل الله الغني الحميد. وأخيرا فإن أحداث جدة الحبيبة تحتم على الجميع مراجعة الحساب مع الله تعالى، والتوبة من الذنوب العامة، وبالأخص من تورط في الفساد المالي والإداري، أو التعسف في اقتطاع الأراضي، أو سوء استخدام السلطة في الاستحواذ الآثم على الممتلكات العامة، أو الغش في المشاريع العامة، أو الإهمال في تنفيذ الالتزامات التعاقدية مع الجهات الحكومية، أو اعتداء على المرافق العامة من طرق وأنفاق وجسور وحدائق ومساجد. * أكاديمي في جامعة الملك فهد للبترول والمعادن