ربما ينتشر القنوط بفعل السطوة المأساوية، فيغرق الساسة ثانية في مساحات العجز والخطاب الناري، وتتلاشى حدود الممكن لدى مقارعة الظواهر الكلامية. حتى «بائع المسك» أصبح في تقاطع و«نافخ الكير»، وباتت القدرة الجمعية تحتاج إلى منتج منفذ قادر على رسم وطن فلسطيني دقيق، ولطاولة مفاوضات لا تفوح منها رائحة المزايدة أو حمى الجغرافيا المعترف بها ورقيا، فالإشارات تغني عن العبارات، وقد بلغ السكين العظم. عند البرزخ بين العام و العام... غزة تمضغ العجز ولسانها «أنا الغريق فما خوفي من البلل». وربما تغرق في خديعة الوعد من خلف الحدود، أو البحث عن وطن مضمر قبل أن يشطبه التاريخ لصالح من «لا يملك، لمن لا يستحق»، لتركض على إيقاع سرابي لا يمنحها الزمن كي تحول المناهضة إلى حقيقة، والكلمة إلى صدق، والجرأة إلى فكرة، والمتكلسين المتحذلقين إلى مدافن القضايا الكبرى غير مأسوف على تركتهم التي لم تكتمل تفاصيلها. إنها، أي غزة، تحتاج الجميع لتكسر الصقيع. عند البرزخ بين العام و العام ... تقف غزة الآن أمام مرآتها، ضامرة كما أطفال بيافرا، حزنها ثقيل بتضاريس التراب المستلب. وتعلم، جيدا تعلم أن خلافة الرقم الصعب في النسيج الفلسطيني، هو الكناية الجادة بإرادة تومئ إلى إرث سياسي لا يزال يتواصل مقترناً بالحلم في الوطن والزيتون، وبكل ماهو مضاد للخنوع والتصالح. وأنها، كمدينة داخل قطاع، لم تعد تؤمن بالحوارات الفاقدة العذرية، والمفاوضات كسبيل لحسم الوجع، ولوضع الوطن جغرافية ماثلة لجموع حملة النعوش. غزة تفتح قوسين، الأدنى منهما أنها تضع الندى موضع السيف، والأعلى استهجان إعجاب «العنقاء» العالمية بصمودها، ما تعتبره استنساخا جديدا لموقف قديم في فرض الرضوخ، وانتظار وعود أصبحت أرخص من التمر في البصرة. لاسيما، وأن ذهنيتها في عموميتها، مستعدة إذا ذكر الذئب أعدت له العصا، وإن صارت مقابرها أوسع من حقول زيتونها. عند البرزخ بين العام و العام ... عرفت غزة أنها لو أرادت أن تتحول أحلامها إلى حقيقة، فإن أول ما عليها فعله هو أن تستيقظ. فالمخيمات لن تصبح فنادق لأولئك القابعين بؤسا حد المأساة، المدفوعين بحثا عن مساحة طبيعية يتوفر فيها الشرط الإنساني، بعد أن باتت ضرورة الوجود وكأنها تحد سرمدي لا تعلنه الدبابات الإسرائيلية فحسب، بل ذلك التجاهل الذي يلف «الجزر العربية»، ليهدي القطاع تسوية خيالية. عند البرزخ بين العام و العام ... تروم غزة الإجابة عن ماهية الأسباب التي تحول بين الأنظمة العربية وبين القدرة؟، قلنا يوما، حذار أن يسقط كل الفلسطينيين كما تجندلت أشجار الزيتون والليمون، فمن يحارب حتى أقرب مستشفى يعمل بكامل طاقته، بعد انهيار المنازل، الأزمنة وموت الأطفال؟. لا أحد يصيخ سمعا، مادام هذا يخدم آيديولوجيا السلام التي تناقش دائماً على طاولات غسيل الموتى. كلهم هناك ضحايا السيدة طروادة الجديدة. حرب مستمرة، كما لو أن هنري كيسنجر لم يقل، ذات يوم تقمصه شتراوس، ولم يقدم اعتذاره لمكيافيللي أو نيرون: إن الصراع في الشرق الأوسط بدأ مع الخليقة وينتهي مع الخليقة. غرغرينا سياسية لم تزل منذ عقود. تتغير اتجاهات ريح الأعوام، الهواجس الجيوبوليتيكة والديموغرافية، قواعد اللعبة. يتغير سدنة التواطؤ واستراتيجياتهم المرحلية، وتبقى جاحظة في وجه التاريخ حقيقة النعامة والرمل. للتواصل أرسل رسالة نصية sms إلى 88548 الاتصالات أو636250 موبايلي أو 737701 زين تبدأ بالرمز 242 مسافة ثم الرسالة