في الحلقة الثانية تواصل «عكاظ» كشف حقائق صاحبت أحداث ما بعد الكارثة التي اجتاحت أحياء شرق جدة العام الماضي، وتتطرق إلى الصعوبات التي واجهت أمانة جدة أثناء التعامل مع أخطر موقعين متاخمين للمدينة تجمعت فيهما الأمطار (بحيرة الصرف الصحي والسد الاحترازي)، وتسرد القصة الكاملة لسيناريو عملية تفريغ مياه بحيرة السد الاحترازي بعد تلقي بلاغ عاجل من الدفاع المدني يؤكد احتمالية انهيار السد خلال ساعات، ومن بين هذه الأحداث مكالمة هاتفية جرت بين محافظ جدة الأمير مشعل بن ماجد وأمين الأمانة حينها المهندس عادل فقيه والمهندس المسؤول عن الموقع. ولأن التحقيقات كشفت عن وجود مخططات سكنية في بطون الأودية، فإن تحركا سريعا جاء بإيقاف نحو 79 مخططا سكنيا تشمل 21 ألف قطعة سكنية، في حين أقرت الأمانة عمل دراسات استمرت ثمانية أشهر، وذلك لمعرفة ما إذا كانت تلك المخططات في مجاري الأودية والسيول، وتأكد بما لا يدع مجالا للشك أن بحيرة الصرف الصحي (المسك) ومخططات الأودية، أوجدت هالة كبيرة من الهلع بين المسؤولين والمواطنين في أعقاب حدوث الكارثة. حسب التقارير الرسمية الصادرة عن هيئة الأرصاد وحماية البيئة وهيئة المساحة الجيولوجية وجامعة الملك عبد العزيز، فإن بحيرة الصرف الصحي في جدة هي أكبر بحيرة صناعية في تاريخ البشرية جمعاء، لاحتوائها على أكثر من 50 مليون متر مكعب من مياه الصرف الصحي المحولة عن طريق الصهاريج إلى موقعها لفترة استمرت أكثر من 18 عاما. ويبدو أن أمانة جدة لم تكن تدرك خطورتها إلا بعد هطول الأمطار الغزيرة وجريان الأودية المحيطة بها العام الماضي، حينها زاد منسوب المياه فيها إلى أكثر من 16 مترا، في وقت لم تكن لها حواجز آمنة تمنع تدفق المياه منها إلى الأحياء المأهولة. وبدأت الأمانة فور إبلاغها من قبل الدفاع المدني بخطورة الوضع هناك بإنشاء سدود ترابية تدعيمية لتعزيز الحواجز السابقة، فيما عملت على إنشاء سد احترازي جديد سمي فيما بعد ب«سد السامر الاحترازي»، بالإضافة إلى السد السابق الذي أنشأته الأمانة قبل أربعة أعوام بكلفة 94 مليون ريال وبطول 60 مترا وارتفاع 13 مترا وذلك لمنع مياه البحيرة من التوجه إلى أحياء شرق جدة في حال انهيارها، غير أن هذا السد لم يستخدم في الغرض الذي أنشئ من أجله، وهو ما دعا بعض المراقبين إلى انتقاد الأمانة لتنفيذها مشاريع غير مدروسة. يروي ل«عكاظ» المسؤول عن متابعة أوضاع البحيرة والسد الاحترازي بعد الأمطار المهندس محمد التميمي سيناريو تفريغ مياه بحيرة السد الاحترازي حين كانت تحتوي على أكثر من 10 ملايين م3 من مياه الأمطار والسيول، يقول «تلقت الأمانة بلاغا عاجلا من الدفاع المدني في اليوم الخامس بعد الكارثة، يشير إلى احتمالية انهيار السد في أية لحظة، ويطالب بإيجاد حلول عاجلة لتدارك الوضع المتفاقم، في ظل استمرار جريان الأودية نحو البحيرة». ويضيف «بعد الكارثة مباشرة، صدرت توجيهات بتشكيل غرفة عمليات مشتركة بين إمارة منطقة مكةالمكرمة ومحافظة جدة والأمانة وهيئة الأرصاد وحماية البيئة والدفاع المدني، لتبادل المعلومات وتمريرها إلى الجهات المعنية كل فيما يخصه، بشأن بحيرة الصرف الصحي وبحيرة السد الاحترازي». وتمركزت فرقة من الدفاع المدني والحديث للتميمي بالقرب من بحيرة السد الاحترازي لمراقبة الوضع هناك بعد تنامي شكاوى المواطنين ومخاوفهم من انهيار السد الاحترازي والبحيرة، «وفي الساعة الواحدة بعد منتصف ليل 14 من ذي الحجة للعام الماضي، مرر الدفاع المدني من خلال غرفة العمليات المشتركة بلاغا عاجلا يؤكد أن السد الاحترازي أوشك على الانهيار، وإذا لم تكن هناك إجراءات عاجلة خلال ثلاث ساعات، فإن المياه البالغ ارتفاعها 14 مترا، وبكمية مقدرة 10ملايين م3، وباتت تشكل ضغطا على جدار السد، ستندفع بقوة باتجاه الأحياء المجاورة وستلحق الضرر بالأهالي والممتلكات». ويستطرد «توجهنا مع الفريق المكلف من قبل الأمانة بمراقبة السد إلى الموقع فورا، وتمت معاينة السد والمفيض الغربي له، ووجد أن الأمر بالفعل يحتاج إلى إجراءات عاجلة تضمن عدم انهيار السد، وتطلب هذا الأمر اتخاذ قرار من جهات عليا لخطورة الوضع القائم، فما كان أمام الفريق الفني سوى خيارين فقط؛ إما ترك الوضع مثلما هو عليه وهذا ما يعني انهيار السد في أية لحظة، أو العمل على تفريغ كمية من المياه عن طريق المفيض والصمامات الموجودة في الجزء الأسفل من جدار السد لتخفيف الضغط عنه». ويضيف التميمي «كان الوقت يداهمنا ولم يتبق أمامنا سوى ساعات قليلة، وفي هذه الأثناء هاتفت أمين جدة السابق المهندس عادل فقيه لإطلاعه على خطورة الوضع وضرورة اتخاذ قرار عاجل، فما كان من الأمين إلا الاتصال بمحافظ جدة الأمير مشعل بن ماجد عند الساعة الثانية والربع تقريبا بعد منتصف تلك الليلة. وبدوره، وجه المحافظ أمين جدة باتخاذ ما يرونه مناسبا والعمل على إنقاذ أهالي الأحياء المجاورة بأية طريقة. عندها تجمعت آليات وأفراد وضباط الدفاع المدني، وجميع الفرق المسؤولة عن متابعة السد، ومسؤولو ومهندسو الأمانة، في انتظار التوجيهات من القيادات العليا، وبعد نصف ساعة من التقرب والانتظار، هاتف أمين جدة المهندس المسؤول في الموقع وأبلغه باتخاذ القرار المصيري والبدء فورا في تفريغ المياه المحتجزة خلف السد عن طريق المفيض الغربي والصمامات الموجودة أسفل السد». ويشرح المهندس التميمي هذا الوضع علميا بقوله «في علم السدود يستخدم المفيض لتفريغ المياه المحتجزة خلف السد في حالة ارتفاع منسوبها، ويتم بطريقة علمية تضمن عدم حدوث أضرار، وبالفعل بدأ تفريغ المياه عن طريق المفيض الغربي بشكل تدريجي، إلا أن المفيض بمفرده لم يكن يفي بالغرض فلا بد من فتح الصمامات، لكن الفرق الفنية واجهت مشكلة أثناء فتح الأبواب الداخلية للصمامات نظرا لطول فترة إغلاقها دون صيانتها». يقول «كنا في سباق مع الزمن، مما يتطلب البحث عن أية طريقة تضمن فتح الأبواب التي تعطلت أنظمتها الإلكترونية، لذلك وجه الفنيين بالعمل على فتح تلك الأبواب بالطرق التقليدية، ولم يستغرق هذا الأمر سوى دقائق معدودة وفتح أحد الأبواب، ثم فتح الآخر، وكان جميع الفنيين في حالة توتر خوفا من اندفاع المياه بقوة وانهيار جدار السد واندفاع كامل الكمية المحتجزة خلفه نحو الأحياء السكنية التي لا تبعد سوى أربعة كيلو مترات، إلا أن الأمور كانت تسير وفق المخطط له، فبدأت المياه تتدفق تدريجيا من خلال الأبواب الداخلية للصمامات، وسط متابعة مستمرة من محافظ جدة وأمينها عبر الهاتف، وبعد مضي أربع ساعات من العملية، وجدنا الأمور تسير وفق ما كان مخططا له، وليس هناك ما يدعو إلى القلق مجددا، وتمت العملية بنجاح، وبذلك انتهي السيناريو المخيف الذي لم يكن يعلم عنه أهالي جدة في ذلك الوقت». وافق المقام السامي على أن تتولى وزارة المياه مسؤولية تجفيف البحيرة واستلمت الشركة الوطنية للمياه الموقع، وتم تجفيفها بالكامل قبل نحو شهر من الآن، وخلال أربعة أشهر من تسلمها الموقع. بعد الكارثة، راجت بين الأهالي مخاوف من الآثار السلبية لعملية تجفيف بحيرة الصرف الصحي، لكن وزير المياه والكهرباء المهندس عبد الله الحصين خرج ليؤكد بعد أن تسلمت وزارته الموقع أن عملية تجفيف بحيرة الصرف الصحي لم تكن على حساب البيئة، وتم استخدام طرق علمية حديثة تضمن عملية التجفيف بشكل آمن. بعد مضي نحو ثلاثة أشهر على كارثة جدة، أصدرت أمانة جدة قرارا بإيقاف التصرف في جميع المخططات شرقي جدة والبالغ عددها نحو 79 مخططا تشتمل على 21 ألف قطعة سكنية، وأكد أمين جدة السابق المهندس عادل فقيه حينها إيقاف تلك المخططات بصفة مؤقتة، حتى يتم اكتمال الدراسات المعنية بمعرفة ما إذا كانت تلك المخططات تقع في مجاري السيول وبطون الأودية. وفي 14 من جمادى الأولى في العام الماضي وقعت أمانة جدة مذكرة تعاون مع هيئة المساحة الجيولوجية تتضمن قيام الهيئة بإعداد دراسة تفصيلية للمخططات السكنية لمعرفة ما إذا كانت في مواقع الخطر، وخلصت الهيئة إلى وجود نحو 8000 قطعة سكنية، يجب إلغاؤها فورا لوقوعها في مجاري الأودية وفي المواقع المخصصة للمشاريع المزمع تنفيذها لصالح تطوير أحياء شرقي جدة. وأصدرت الأمانة في شهر شوال الماضي قرارا يسمح لجميع أصحاب القطع الموقوفة بالاستفادة من أراضيهم ما عدا أصحاب 8000 قطعة أوقفت، على أن تعمل لجنة برئاسة إمارة منطقة مكةالمكرمة وعضوية الأمانة، وزارة المالية، والغرفة التجارية، على تعويض أصحاب القطع الموقوفة بأراض بديلة أو بمبالغ مالية توازي قيمة الأرض. لكن أصحاب تلك القطع أبدوا امتعاضهم إزاء تأخر هذه الدراسات، مؤكدين أن عملية الإيقاف التي استمرت ثمانية أشهر، كبدتهم خسائر كبيرة وطالبوا بتعويضهم عن تلك الفترة التي منعوا من التصرف في أراضيهم. وفي هذا الشأن، كشف مصدر ل«عكاظ» في أمانة جدة، أن اللجنة المكلفة بعملية التعويض ستبدأ أعمالها بعد موسم الحج لهذا العام، وستعوض أصحاب القطع الموقوفة في النطاق العمراني بمبالغ مالية تساوي القيمة السوقية للأرض. عقب كارثة جدة، اقترح عدد من مسؤولي الأمانة مشاريع طارئة لضمان عدم تفاقم الأوضاع في المناطق المنكوبة، واقترح أحد المسؤولين تنفيذ مشروع لتفريغ مياه بحيرة السد الاحترازي إلى مجرى السيل الشمالي لمدينة جدة، من خلال قناة بطول أربعة كيلو مترات مكونة من أنابيب بلاستيكية بطول سبعة كيلو مترات وقناة أرضية بطول كيلو واحد، وتركيب سبع مضخات مائية، يتم توريدها من الخارج أو استئجارها من إحدى الشركات المتخصصة، ووافق الأمين في حينها على هذا المشروع، وتم تنفيذه في غضون 40 يوما من الكارثة، وبدأت الأمانة بتفريغ تلك المياه الموجودة خلف السد الاحترازي. لكن هذا المشروع واجه استهجان الأهالي وعدد من الخبراء والمختصين، فهم يرون أن المشروع الذي كلف الأمانة 40 مليون ريال، لم يعتمد على دراسات علمية متأنية، وكان مشروعا ارتجاليا وتسبب في هدر المال العام، فيما رأت أمانة جدة أن المشروع له أهمية كبرى وساهم في تفريغ المياه المتجمعة خلف السد الاحترازي إلى البحر عبر المجرى الشمالي. أوضحت دراسات ميدانية نفذت في أعقاب الكارثة أن معظم المنازل المتضررة كانت في بطون الأودية وأنشئت بشكل مخالف، لكن جولة «عكاظ» على وادي مريخ (شرقي جدة) كشفت حقائق ما زالت تتجاهلها الجهات المعنية، فرغم التحذيرات الرسمية بضرورة إخلاء تلك المنازل فورا لوقوعها في أماكن الخطر، مازالت هذه المنازل قائمة ويقطنها العديد من الأسر، بل إن عمليات البناء ما زالت مستمرة وسط غياب الجهات الرقابية لمنع البناء في الأماكن المحظورة والخطرة. وفي حوار مع «عكاظ» يقول أصحاب تلك المنازل إن بناءهم في المواقع الخطرة، بسبب عدم قدرتهم دفع إيجارات مرتفعة للسكن في المواقع النظامية، بالإضافة إلى أن تكلفة البناء في المواقع المعتمدة تتطلب مبالغ مالية كبيرة، ومداخيلهم المادية لا تسمح لهم بذلك، لكنهم أكدوا في الوقت نفسه استعدادهم للمغادرة في حالة إيجاد بدائل مناسبة، شريطة ألا يكلفهم ذلك مبالغ مالية هم في غنى عن دفعها، فيما يحمل مراقبون عقاريون المسؤولية على بعض الجهات المعنية، أبرزها الأمانة التي تساهلت ومكنت المواطنين من البناء في تلك المواقع ولم توجد لهم مواقع بديلة، وحملوا كذلك لجنة التعديات جزءا كبيرا من المسؤولية لتركها المواطنين دون رقابة، وأكدوا أن هذا التجاهل فاقم البناء العشوائي في المناطق الخطرة، وسيشكل خطرا حقيقيا على أرواح الكثير من المقيمين في هذه المواقع.