كانت رحلة قصيرة جدا ولكن ممتعة، كنت وحيدا أتأمل وفي لحظة ودون سابق إنذار تقافزت الأرقام أمامي وبدأت تتطاير سريعا وترجيتها أن تقف وبدأت أدونها بهدوء حتى لا تهرب واتضح ما كنت أخشاه: يعمل موظفو القطاع العام في العام الواحد حدود 2000 ساعة وعلى مدى خدمة كاملة أربعين عاما 80 ألف ساعة، والتي من المفترض أن تكون 80 ألف ساعة إنتاج وبنظرة سريعة وخاطفة إلى عدد موظفي القطاع العام حسب إحصائية العام 2009م نجد أن عدد الموظفين 899.711، ويعني ذلك أن في العام أكثر من 42 مليون ساعة إنتاج والسؤال الآن أين عائد تلك الساعات الإنتاجية على حاضر ومستقبل الوطن !!!. إن العدد الضخم السابق يشير إلى أن هناك خللا في توظيف قدرات موظفي القطاع العام وهو ما يتطلب تطوير طريقة تقييم أداء القطاع العام لتشتمل على تقييم إنجازات كل جهاز وفروعه بناء على عدد الموظفين وعدد الساعات الإنتاجية ومقارنتها بالمخرجات حتى يتضح مصدر الخلل في كل جهاز وأسباب عدم الاستفادة من الموظفين بشكل أمثل، فالمناهج الإدارية المستخدمة في القطاع العام والتي تعتمد على المركزية والعمل الفردي والروتيني قد تكون قد تسببت في إهدار ساعات إنتاجية طائلة قد تكون مصدر نهضة للوطن لو تم توظيفها بشكل أمثل، فالعمل المركزي الذي يعتمد على مجموعة أشخاص في الغالب هم صناع القرار ومتخذيه في كل جهاز من أجهزة القطاع العام جعل البعض بليدي إحساس يركنوا إلى الراحة فتلك المدرسة المركزية جعلت من دور موظفي القطاع العام موظفين للمتابعة وهذا الدور يجب أن يمارسه القادة التنفيذيون في القطاع العام وليس العكس، ومثل هذه المدارس الإدارية لا تصنع أمة، وتزيد الهدر بازدياد عدد الموظفين وتحولهم تدريجيا إلى بطالة مقنعة. إن القطاع العام وفي ظل المعطيات السابقة يتضح أن المنجز الحقيقي للقطاع العام في الغالب هي المخصصات المالية التي توفرها الدولة وأبطالها الحقيقيون هم المكاتب الاستشارية وقطاع الإنشاءات وبالتالي مثل هذا الخلل بحاجة إلى إصلاح جذري حتى لا يستمر ارتباط إنجازات القطاع العام بمخصصات الموازنة العامة للدولة، وهنا لا أقلل من أهمية المال للإنجاز ولكن الخطر أن يكون المال لوحده هو المصدر الرئيس للإنجاز دون أن يساهم موظفو القطاع العام في تحقيق منجزات بناء على قدراتهم الفكرية والخبرات التراكمية المكتسبة. استرحت لبرهة ومن ثم تطايرت الأرقام من جديد أمامي، فأسرعت إلى تدوينها ومن ثم بدأ شعر رأسي يقف لهولها ! ما ينطبق على موظفي القطاع العام ينطبق على موظفي التعليم العام، فحسب التقرير السنوي لمؤسسة النقد يتضح أن عدد المعلمين والمعلمات في التعليم العام يبلغ 417.459 وعدد الطلاب والطالبات 6.137 مليون، ومن ثم قفز سؤالان أمامي الأول عند قسمة عدد الطلاب على المعلمين نجد أن نصيب المعلم 15 طالبا ! وعندما نشاهد الفصول الدراسية نجد أن عدد الطلاب يصل إلى 30 أو أكثر في الفصل الواحد، فمن أين نبع الفرق !!! هل رقم المعلمين السابق يشمل الإداريين والموجهين ؟! إن كان كذلك فيعني ذلك أن عدد الإداريين قد يصل إلى ضعف عدد المعلمين أو أن توزيع المدارس لا يتناسب مع عدد الطلاب، والسؤال الآخر إذا افترضنا أن نصيب المعلم 24 حصة في الأسبوع وهو ما يعادل 18 ساعة أسبوعيا. وبحسبة بسيطة فالمعلمون والمعلمات ينفقون في الأسبوع في حدود 7.5 مليون ساعة تعليمية وتربوية.. وهنا نتساءل أين العائد على تلك الساعات على حاضر ومستقبل الوطن والأجيال القادمة؟، وأين مكمن الخلل، هل ما يعلم في الفصول التعليمية يصعب تطبيقه خارج الأسوار ؟، أم أنه لا يرتقي أن يمارس خارج الأسوار ؟، أم أن التربية والتعليم يجب أن تأخذ منحى آخر لتطوير طرق التربية والتعلم في المنازل ؟، أم أن المناهج الإدارية والتعليمية المستخدمة خفضت العائد إلى الدرجة التي أصبح بها التعليم محدود العائد ! ولماذا تستمر ذات النتائج وتوجد مخصصات ضخمة في مشروع تطوير التعليم العام ؟! تركت الأرقام وشأنها وحان وقت الخلود للنوم، وما أن أغضمت عيني إلا وتتطايرت الأرقام من جديد، وأمعن النظر بها وإذا هي أرقام التعليم العالي: فعدد أستاذة التعليم العالي بلغ 31.626 ، وعدد طلاب التعليم العالي 706.869 وبالتالي علينا أن نتساءل ماذا قدمت مؤسسات التعليم العالي للوطن، هل قدمت جيل نهضة ؟، هل أهدت مبتكرين ؟، هل نمت الإبداع وطورت القدرات الفكرية للطلاب وأساتذة الجامعة ؟، هل كانت بحوث أساتذة الجامعات واقعية وساهمت في تسليط الضوء على مكامن الضعف في التنمية والمجتمع ؟ لا نريد الحديث عن جيوش الموظفين الذين قذفت بهم الجامعات إلى ميادين العمل فجزء كبير منهم لا ينعكس التعليم على ممارساتهم في ميادين الأعمال وفي الحياة عموما !.. بعد تلك الأرقام السابقة علينا أن لا نخلد إلى النوم حتى نتساءل عن مستقبل الوطن والأجيال القادمة وماذا قدمنا لهم؟، ومقدار الوقت الذي أهدرناه، وبعد أن نجد إجابة مرضية علينا أن لا نخلد إلى النوم بل إلى ميادين العمل لتنفيذ ما غاب عن ذاكرتنا لسنوات طويلة !. [email protected]