حين كنت طالبا أحببت جان بول سارتر وآمنت إيمانا قويا بفرضيته التي تقول، إن الكاتب يجب أن يلتزم بأزمنته وبالمجتمع الذي يعيش بين أفراده، وإن الكلمات أفعال، والإنسان يستطيع أن يؤثر، من خلال الكتابة، في التاريخ. لكن أفكارا كهذه تبدو ساذجة اليوم، ويمكن أن تعود إلى التثاؤب. ذلك أننا نعيش في عصر يتصاعد فيه التشكيك بقوة الأدب وبالتاريخ أيضا. ولكن، في الخمسينيات صدمت كثيرين منا وأقنعتنا فكرة أن العالم يمكن أن يتغير نحو الأفضل، وأن الأدب ينبغي أن يسهم في ذلك. .. كنت، نوعا ما، متقلبا في أهوائي الأدبية أيام المراهقة، أما الآن، حين أعيد القراءة لكثير من كتابنا الذين كانوا نموذجا لي في ما مضى، أجد أنهم لم يعودوا يستوقفونني، وبينهم سارتر لكن الهيام السري، المذنب، الذي امتلكته نحو أعمال بورخس، لم يتلاش أبدا، وقد شكلت قراءته، العمل الذي كنت أقوم به بين فينة وأخرى كأنني أمارس طقسا كان دائما متعة دائمة لي. ثم أعدت، من أجل تحضير هذه المقالة، قراءة كتبه واحدا واحدا، ودهشت مرة أخرى كما حصل لي، حين قمت بذلك للمرة الأولى، من رشاقة ودقة نثره، ونقاء قصصه وكمال صنعته. وأنا أعي تماما أنه من المحتمل أن تكون التخمينات الأدبية عابرة، ولكنني، وفي حالة بورخس، لا أعتبر من التهور إعلان أنه الشيء الأكثر أهمية الذي حدث للأدب المكتوب باللغة الإسبانية في الأزمنة الحديثة، وأنه من أكثر الفنانين حضورا في الذاكرة في عصرنا. آمنت أيضا أن الدين الذي ندين به لبورخس، نحن الذين نكتب بالإسبانية، دين ضخم، ويشمل هذا حتى أمثالي من الذين لم يكتبوا أبدا قصة فنتازية خالصة، ولم يشعروا بأية قرابة خاصة مع الأشباح والجن واللانهاية أو ميتافيزيقيا شوبنهاور. .. إن اللغة الإسبانية هي كمثل الإيطالية أو البرتغالية والكاتالاتية، لغة إطناب، غنية وصاخبة، يثير مداها العاطفي العجب. ولكن، للأسباب نفسها، هذه اللغة ليست دقيقة فكريا مفهوميا ان إنجاز كتاب نثرنا الأعظم، منذ سرفانتس، وهو مثل عرض رائع للألعاب النارية، تتقدم يه كل فكرة عابرة تسبقها وتحيط بها حاشية غاضبة من الخدم والملتمسين والوصيفات، الذين يلعبون وظيفة زخرفية فحسب، إن اللون ودرجة الحرارة والموسيقى أمور مهمة في نثرنا كمثل الأفكار، وفي بعض الحالات كما عند ليثا ماليما وقبيل إنكلان ليس هناك اعتراض على هذه الإفراطات البلاغية الإسبانية النموذجية، ذلك أنها تعبر عن الطريقة العميقة لشعب يسود في طريقة وجوده العاطفي والملموس على الفكري والمجرد، ولهذا نرى أن فيل إنكلان والفونسو ريز واليخو كاربنتييه وكاميلو خوسيه سيلان على سبيل المثال، هم مطنبون في كتاباتهم. وهذا لا يجعل نثرهم أقل مهارة وأكثر تصنعا من نثر فاليري وإليوت. إنهم ببساطة مختلفون تماما، كما يختلف الأمريكيون اللاتينيون عن الإنكليز والفرنسيين. وبالنسبة إلينا، تشكل الأفكار وتقبض عليها بشكل أفضل حين تكتنز بالعاطفة والإحساس، أو حين تدمج بطريقة ما بالواقع المحسوس، الحياة أكثر مما هي في الخطاب المنطقي. وربما لهذا السبب تمتلك أدبا غنيا وندرة في الفلاسفة. وحين يتجه المفكرون الأمريكيون اللاتينيون لكتابة الفلسفة فهم عادة يكتبون أدبا. وينطبق هذا على المفكر الأبرز في الأزمنة الحديثة في اللغة الإسبانية، أورتيغاي غاسيت، الذي هو، قبل أي شيء رجل أدب.