هل يمكن أن يمر علينا شهر رمضان الكريم مستقبلا دون أن تمتلئ الشوارع بالأعداد الغفيرة من المتسولين الذين رأيناهم في الشهر الماضي ونراهم في شهر رمضان من كل عام؟ رمضان شهر الإحسان والصدقات وموعد زكاة الفطر والشهر المفضل لإخراج زكاة المال اللتين يفرضهما ديننا الحنيف. وكثير من أصحاب القلوب الرحيمة يتلهفون إلى حلول الشهر الكريم لاغتنام الفرصة لمساعدة المحتاجين بموجب الدوافع الدينية والإنسانية. ومع تضخم حجم المدن وقلة معرفة الناس بعضهم ببعض يكون التسول أسهل طريقة لإيصال المعونة من القادرين إلى المستجدين بطريقة مباشرة. ولذلك فإنه يستمر في مجتمعنا وفي كثير من المجتمعات النامية رغم مشاكله ورغم ظهور البدائل التي ألغت دوره في كثير من الدول. المشكلة الأولى في التسول هي أنه إهدار لكرامة الإنسان، والثانية أنه طريقة عشوائية لتوزيع المال الفائض، بينما الزكاة حق مقنن مفروض على الأغنياء لسد حاجة فئات محددة من المستحقين من فقراء ومساكين ومرضى وعجزة ومقعدين وغيرهم وفقا لاحتياجاتهم الأساسية المعيشية والصحية وغيرها التي يتطلب الزمن الراهن تحديدها بصورة مفصلة. المشكلة الثالثة هي أن طريقة التسول تجتذب الكثير من المحتالين والكسالى الطامعين في الكسب اليسير دون عمل ولا مشقة ممن يكون كسبهم على حساب الضعفاء من المستحقين. هذه المشاكل دفعت الدول المتقدمة إلى رفض التسول برمته واستبداله بطرق مؤسساتية منظمة تضمن التحصيل والتوزيع العادل لفائض الأموال والاستفادة منه للمحتاجين بأفضل الوسائل، وأكثرها فاعلية. المشكلة تبقى في مقدار الجهد المطلوب لتفعيل هذه المؤسسات وهو، من الواضح، يفوق طاقة كثير من المجتمعات التي تركن إلى أسهل الحلول، وهو أن تترك التسول على عواهنه ليسد الفجوة الناتجة عن غياب أنظمة الضمان الاجتماعي. التطورات التي حصلت في مجتمعنا خلال الأعوام الماضية نقلتنا نقلات كبيرة ويمكن لها أن تقودنا إلى المزيد من الأنظمة المؤسساتية التي تستطيع أن تلغي دور التسول بالكامل. منذ حوالي عشرين عاما أو أكثر لم تكن أنظمة جمع زكاة المال الواجبة على المؤسسات والشركات التجارية والصناعية مكتملة ومقننة كما هي عليه الآن، ولذا كان التجار يخرجون جزءا كبيرا من زكاة تجارتهم مباشرة للمحتاجين الذين يعرفونهم إضافة إلى كثير من المتسولين الذين كانوا يتجمعون أما بيوتهم بصورة غير حضارية. بعد أن شددت مصلحة الزكاة والدخل على طريقة احتساب الزكاة وأخذت تطبق أنظمتها بصرامة، تقلص الإنفاق المباشر من قبل التجار، وتبعا لذلك قلت طوابير المتسولين. في نفس الوقت ظهرت وزارة الشؤون الاجتماعية التي تتولى صرف الزكاة على مستحقيها من خلال نظام الضمان الاجتماعي الذي، لا شك، ساعد على استيفاء الحدود الأساسية من احتياج كثير من المواطنين وجنبهم اللجوء إلى التسول، وهو ما يفسر انخفاض نسبة المواطنين بين إجمالي المتسولين. ولا شك أن مقدار الضمان الاجتماعي يحتاج إلى المراجعة باستمرار. التطور الثاني في مجتمعنا لعبته الجمعيات الخيرية التي كفلت الأيتام ومدت يد العون إلى كثير من المعوزين وساعدت الشباب على الزواج وغير ذلك. مرة أخرى كان المستهدف الأساسي من قبل الجمعيات المواطنون، وهم لا شك الأولى بذلك، وإن كانت هذه الجمعيات تمد يد العون أيضا إلى بعض الوافدين النظاميين فتغطى احتياجات نسبة منهم وخاصة في أمور معينة مثل العلاج وغسيل الكلى وغير ذلك. وعليه فإنه يمكن التوسع في استيفاء باقي الاحتياجات الملحة للمواطنين والمقيمين الشرعيين بواسطة دعم الجمعيات الخيرية الحالية وما يندرج تحتها مثل المستودعات الخيرية أو إنشاء المزيد منها. ولا شك أن الكثير من المواطنين بدؤوا يعتادون على توجيه زكاتهم نحو هذه الجمعيات، مما يساعد على التقليل من ظاهرة التسول. العنصر الأساسي المتبقي في مشكلة التسول لدينا، في اعتقادي، هم المقيمون غير الشرعيين الذين تغص بهم بلادنا. من المفترض أن هؤلاء لا يكون لهم وجود أساسا، ولكنهم موجودون في واقع الأمر وبصورة لا يمكن إنكارها وذلك لظروف الحروب والمجاعات في بلادهم. وبعضهم ولد ونشأ هنا. أغلب هؤلاء تنطبق عليهم شروط الزكاة، وهم، كما يبدو، يشكلون غالبية المتسولين. طالما أن بلادنا تغض النظر عن إقامة هؤلاء لفترات طويلة لأسباب إنسانية فلماذا لا يتم توزيع الزكاة والصدقات لهم بطرق مؤسساتية مثل ما يتم لغيرهم أي عن طريق الجمعيات والمستودعات الخيرية أو المراكز التطوعية؟ مجتمعنا يحب الخير ومن الصعب عليه أن يرى طفلا يمد يده وسط السيارات بطلب العون ويمتنع عن مساعدته، أو أماً تقعد على قارعة الطريق لساعات كثيرة وحولها أطفال يلعبون في أسمال بالية، ولا يقدم لهم شيئا، أو عجوزا تنبش في حاوية النفايات دون أن يؤلمه ذلك. استمرار وجود هذه الصور في بلادنا تظهرنا بشكل غير حضاري بل تديننا بأننا عاجزون عن حل مشاكل أساسية تحدث تحت أعيننا وبمقدورنا حلها. وبلادنا ولله الحمد سبقت كافة الدول في المساعدات الخارجية فكيف تسمح باستمرار كثير من مظاهر الفقر والتسول المشينة في داخلها؟ عندما ينفي الضمان الاجتماعي والمؤسسات الخيرية الحاجة إلى التسول سيكون رمضاننا أكثر كرامة وعدالة وستكون زكواتنا وصدقاتنا بمشيئة الله أكثر فاعلية وأوسع نفعا.