أمتار قليلة تفصل بين صورتين متناقضتين؛ الأولى صورة الصخب الذي يملأ شوارع مكة استعدادا لاستقبال سيد شهور العام، والثانية هادئة إلى درجة الصمت في دار الرعاية وكأن من فيها لم يدرك شهر الصوم، فالنزلاء وهم من كبار السن في الغالب، منهم من انشغل بسماع إذاعة القرآن، وهناك من انهمك في متابعة جلسات العلاج ويقضي النزلاء طوال ساعات اليوم بين أسرة النوم والخروج في فناء الدار. أجساد ناحلة تتلوى على فراش المرض، وهدوء مطبق لا يقطعه إلا بقايا أصوات آهات مشحونة، تكاد تلغي أزيز أجهزة التكييف التي خيمت بهواها البارد على الغرف المظلمة، مما أغمض الجفون الباكية والأعين الغائرة، وكأن النوم سلاحهم الوحيد لمواجهة الملل، فيما يتراكض حولهم العمال لتقديم علاج أو مد غذاء أو تغيير لباس، وكأنهم أبناء غير شرعيين لهذه الفئة المنسية.. هذه هي ملامح الحياة التي حاولنا أن نرصدها من الداخل بعد أن تسللنا بهدوء فكانت هذه اللقاءات التراجيدية التي كادت أن تسقط قلوبنا ونحن نحاول أن نضيء عتمة اللحظات. وفي غرف وردهات دار الرعاية الاجتماعية في العاصمة المقدسة يظل محمد قشقري البخاري، وهو أقدم نزيل في الدار وعمره 74 عاما، قضى 42 عاما منها في الدار، يتقاعد الموظفون العاملون وتتوافد العمالة الآسيوية، وتذهب ويأتي النزلاء ويموت منهم من يموت، ويبقى البخاري علامة مهمة في دار الرعاية، وهو من مواليد مدينة الطائف عام 1350ه، ويعاني من أمراض مزمنة حولته في ظل عدم وجود العائل إلى الدار، وهو الآن مصاب بمرض السكر وأمراض الشيخوخة التي يقاومها بشراسة رغم تقدم عمره، إذ إنه لم يستسلم لجلسة السرير ودائم الخروج إلى فناء الدار ولم تفلح كل محاولاتي في كشف ما بداخله من أسرار، إذ اكتفي بمصافحتي بابتسامة بيضاء كبياض ثوبه الذي يلبسه من داخل الدار. يختلف استقبال رمضان في دار الرعاية عن أي موقع آخر، فإذا كان الكثيرون يستقبلون شهر الصوم بالصيام والقيام، فإن 90 في المائة من منسوبي الدار لا يقدرون على ذلك، ويستقبلون شهر الصوم بالكفارات، حيث إن 85 مسنة ومسنا في دار الرعاية في مكةالمكرمة دفعتهم أمراض الشيخوخة والضعف العقلي للإفطار في نهار رمضان؛ منهم 48 نزيلا و37 نزيلة من بين أكثر من 105 مجموع النزلاء، فيما أصر على الصيام 12نزيلا وعشر نزيلات. يقول مدير دار الرعاية الاجتماعية في مكة عبيد الله المسعودي إن الدار تنفذ مشروع إخراج الكفارات عن النزلاء من غير القادرين على الصيام الذين يعانون من أمراض مزمنة وأمراض الضعف العقلي وتزيد أعمارهم على 70 عاما بعدد 425 وجبة لإطعام الفقراء والمساكين بقيمة 2550 ريالا، وذلك من مخصص النزلاء الذي يودع في حسابهم وتقدمه لهم الوزارة بواقع ريالين يوميا. ويشير المسعودي إلى أن الدار تقدم جملة من المناشط قبل إطلالة رمضان، حيث نظمت في الشهر الجاري نزهة الشعبنة لمنسوبي الدار، شارك فيها 22 نزيلا من المدركين والمتفاعلين، إضافة إلى منسوبي الدار من الإداريين والإخصائيين الاجتماعيين إلى جانب برامج خاصة لاستقبال رمضان كمحاضرة دينية تهدف إلى تعميق التواصل بين النزيل وأسرة مرورا بالدار، حيث وزعت الدعوات لعدد من أولياء أمور وأقارب النزلاء ركزت على بيان فضل صلة الأرحام والإجابة على أبرز الأسئلة التي قد تواجه النزيل من مواقف دينية في رمضان.