لا تكاد تخلو الصفحات الأولى منذ أكثر من أسبوع من خبر ذي صلة بقضايا الفساد المالي والإداري واستغلال النفوذ، تصدرها في بداياته خبر تحديد موعد مثول المتهمين في كارثة الأمطار والسيول في جدة بعد أن تأخر مثولهم لثلاثة أسابيع، ثم ما لبث مجلس الشورى أن أثار قضية هيئة الرقابة والتحقيق التي وجه إليها انتقادات واسعة، كما تم الكشف في نفس الأسبوع عن قرب صدور نظام جديد يجرم ويعرف الاعتداء على المال العام، متضمنا (16) مادة توضح العقوبات والجرائم التي يعاقب عليها، وذلك في إطار محاربة الفساد المالي والإداري، وكما ورد في الأخبار فقد رجحت مصادر أن يتم العمل بالنظام فور صدوره وتطبيقه على المتهمين الذين يثبت تورطهم في كارثة سيول جدة، أو يثبت اعتداؤهم على المال العام بعقوبات تصل إلى العشر سنوات سجنا والغرامة مليون ريال. لست في حاجة لأن أقول بأننا بدأنا في إعلان الحرب على الفساد بعد أن أعلنها العالم عبر المنظمات والهيئات الدولية، ومثلما يقول المثل الإنجليزي أن تأتي متأخرا خير من أن لا تأتي. ولكن هل خطر ببالنا بعد آخر في هذه الحرب قلما نتنبه إليه أو نشتغل عليه؟ إنه البعد الثقافي الاجتماعي. ذلك أن الحرب على الفساد يجب أن لا تكتفي بنصوص القوانين، بل يجب أن نشن حربا استباقية على الفساد على الجهة الثقافية الاجتماعية. والحرب الثقافية الاجتماعية لا تعني أن ندبج المقالات والقصائد العصماء في هجاء الفساد، بل تقوم هذه الحرب على نقد المفاهيم الاجتماعية الخاطئة، والكشف عن تناقضاتها مع الشرع الذي تقوم عليه حياتنا، ومع المنطق الذي توافقت عليه عقول الناس.. ولنأخذ لذلك مثلا مفهوم «الستر» الذي أمرنا به الله ورسوله، ولكن «ستر» من؟ وفي أي حالة يكون الستر؟. لأنك تسمع من البعض النهي عن فضح سارق المال العام وعدم التشهير بالمفسدين؟ مع أن الله أمرنا أن تشهد طائفة من المؤمنين عقابهم ردعا لغيرهم وفضحا لهم، فالمؤمن مدعو لستر من يرتكب إثما يضره هو ولا يتجاوز لغيره أما من يضر إثمه غيره، حتى على مستوى رمي المحصنين والمحصنات بالباطل والظن فقد أمرنا الله ورسوله بفضحهم والتشهير بهم وأن يشهد الناس عقابهم. فما بالك بمن يسرق ويفسد ويستغل الوظيفة العامة ويخون ثقة ولاة الأمر والمواطنين والأمانة التي كلف بمسؤوليتها؟ عن أي ستر نحن نتحدث هنا؟ وفي الكثير من المفاهيم والأعراف الاجتماعية الفاسدة والتي تشجع على الفساد وكأنها تحرض عليه وتدعو إليه. والواقع أن الحرب الثقافية الاجتماعية على الفساد ينبغي أن تقوم بجهد فكري وفقهي يغوص عميقا لا في الظواهر الاجتماعية السلبية فحسب، بل في ما هو أهم من ذلك أن يتناول بالتحليل والتشريح أسباب هذه الظواهر، ولن يجدها بعيدا عن انتشار وتفشي النزعة الاستهلاكية التي رفعت القيم المادية وانخفضت بالقيم الروحية والمعنوية والأخلاقية، حتى كادت المادة أن تصبح هي غاية الحياة، مهما كان ثمنها. حتى ولو كان ثمنها شرف وكرامة الإنسان ومن تحت هذا الخلل والاختلال تسللت العديد من القيم السالبة، حتى أصبح الثراء عن طريق السرقة والاحتيال شطارة وذكاء. والله المستعان. * أكاديمي وكاتب سعودي www.binsabaan.com للتواصل أرسل رسالة نصية sms إلى 88548 الاتصالات أو 636250 موبايلي أو 737701 زين تبدأ بالرمز 215 مسافة ثم الرسالة