الفن حالة إنسانية، يبدأ من حالة إنسانية أو يتجه إليها أو يتغلل فيها، ومن خلالها يتحرك وأي تطويع للعملية الفنية يذهب بها بعيدا عن الحالة الإنسانية، إنما هو لي ذراع للفن نفسه، وإرغامه على السباحة في غير مياهه قد ينطلق الشعر أو المسرح أو الرواية أو القصة القصيرة أو الرسم أو الأغنية أو الفيلم السينمائي من موضوع شديد الخصوصية والمحلية، لكنه أبدا لا يصل إلى أي من مستويات الفن الرفيع، الحقيقي إن هو لم يتمكن من حقن هذا الموضوع، حكاية كان أم لونا أم وترا بشحنات إنسانية فاعلة وحقيقية وخالدة، المواضيع الشيقة بذاتها، مثل الحب والغزل، والمواضيع الكريمة بذاتها مثل التضحية والإيثار، والمواضيع الجليلة بذاتها مثل الرحمة والإيمان، والمواضيع الملحة بذاتها، مثل الحرية والأوطان، ليست هي ما يمنح الفن ألقه وسحره وجاذبيته وديمومته، لكن القدرة على استدراج هذه المواضيع، وأي مواضيع أخرى غيرها، إلى حس إنساني عميق وأصيل هي من يفعل ذلك، وإذا كانت الموسيقى بطبيعتها أكثر الفنون قدرة على التخلص من كارثة الموضوع المسبق للعمل الفني، فإن الرسم نجح عبر مسيرة نضالية طويلة في ردم الهوة بين موضوعه المعلن الصريح وغاياته المستترة، بفضل الوسيط المادي الرابط بين الفكرة وطريقة إنتاجها، حيث اللون ينجح دائما في التفلت من سياقات المعنى السابقة لعرضه، وكل من يحب اقتناء اللوحات الفنية وتعليق بعض منها على جدران منزله، ومهما كانت بساطة تلك الأعمال، وبغض النظر تقريبا عن قيمتها الفنية يعرف أكثر من غيره أن اللوحات ذات المواضيع المحددة والمفهومة، بمعنى أنها قاطعة الدلالة كرسم شخص أو شجرة أو معركة أو إبريق شاي، تصيب مشاهدها بالملل أسرع وأكثر من تلك اللوحات اللونية الخالصة التي لا تكاد تقول شيئا بادئ الأمر، وربما بقيت كذلك طويلا، أو إلى الأبد، يكفيك منها شعورك تجاهها بأنها ليست طلسمة فارغة أو عبثية خالصة، وأن ألوانها وخطوطها لم تنتق أماكنها خبط عشواء أو مصادفة يكفيك هذا، ويكفيك ما هو أقل منه ربما لتتوالد بينك وبين هذه اللوحة علاقة حميمية طويلة وربما دائمة، أما الرواية فهي واحدة من أكثر الفنون تورطا بقوة الموضوع وأهميته السابقة للعمل الفني نفسه، ولو جرب قراء الرواية أنفسهم أمام الأعمال التي تصيبهم بملل وتأفف لاكتشفوا أن السبب الأول لمثل هذا الملل والتأفف هو غياب الحالة الإنسانية عن العمل، واستبدالها بحالة اجتماعية غالبا، أو أيدلوجية كثيرا، والعدد الأكبر من الروايات السعودية يشتكي من هذا المرض، وما ينطبق على الرواية ينطبق على الشعر، والشعر الشعبي الحاضر إعلاميا اليوم مثال واضح على هذه المصيبة، لكنني بالتأكيد لا أقف في صف الذين يعزون ضعف القصيدة الشعبية اليوم إلى مسألة القبلية أو الغزل أو المديح، أو أي موضوع آخر، رغم تقديري الكبير لوجهات نظرهم، لكنني أرى أن عدم القدرة على الانطلاق من هذه المواضيع المحددة سلفا والتحرك من خلالها بطريقة فنية تمنح النصوص أفقها الإنساني الكوني هو السبب في هشاشتها، ذلك لأن الإعلان عن شيء قد يتسبب في شهرته، وذيوعه وإلى حد ما قد يتسبب في نجاحه فترة من الزمن، لكنه أبدا لن يتمكن من منحه الجودة المطلوبة لبقائه وديمومته. يكتبها: فهد عافت صندوق بريد: 375225 الرياض الرمز البريدي: 11335 [email protected]