قالوا: إن عرش الحب معلق فوق سبعة أعمدة.. قلت: وما هي؟ قالوا: هي الإخلاص والصدق والوفاء والإيثار والثقة والاحترام والانجذاب.. قلت: أليس الحب هو الانجذاب؟ قالوا: إن الانجذاب بدون غيره من الأعمدة يسمى الحب الأعمى.. قلت: فماذا إذا انهارت كل هذه الأعمدة؟ قالوا: ينهار عرش الحب.. قلت: فماذا إن سقط بعضها؟ قالوا: يقل الحب ويزيد كلما قلت الأعمدة أو زادت.. قلت: وهل يزيد حب العاشق للمعشوق وينقص؟.. قالوا: ألا ترى أن الإيمان يزيد وينقص؟ قلت: بلى.. قالوا: ألا ترى أن الإيمان هو أقدس المقدسات؟ قلت: أجل.. قالوا: إذن فكل مقدس دونه يزيد وينقص.. قلت: هذا عن حب العاشق للمعشوق، فماذا عن حب الأوطان؟ قالوا: هو أيضا من المقدسات.. قلت: وبما أنه من المقدسات إذن فهو يزيد وينقص.. قالوا: بكل تأكيد. ثم قالوا: واعلم أن المجتمعات العربية والإسلامية اليوم تعيش حالة من التخبط حول مفهومها للوطنية، وذلك بين مؤيد ومعارض، فالبعض يراها بدعة وضلالا والبعض يراها سنة حسنة.. قلت: وأيهما هو الصواب؟؟ قالوا: الرأي الثاني هو الصواب، ألا ترى أن النبي عليه الصلاة والسلام وقف مخاطبا مكة وهو مهاجر إلى المدينة، وقال (والله إنك لأحب البقاع إلي ولولا أن قومك أخرجوني ما خرجت)، فالرسول عليه الصلاة والسلام ارتبط عاطفيا بالمكان الذي ولد ونشأ فيه فأحبه وأصبح له وطنا، لأن الوطنية شعور فطري فهو مزيج من العاطفة والولاء والانتماء بسبب الولادة أو النشأة في بقعة جغرافية محددة تتمتع بثقافة معينة تشكل في نهاية المطاف هوية يتميز بها الإنسان. ثم قالوا: ومن جهة أخرى، وإن كانت جميع العناصر التي ذكرناها أعلاه تشكل في مجموعها عرش الوطنية، إلا أن هذا العرش لابد أن يكون مرتكزا على أعمدة مبادئ حقوق الإنسان التي ترفع وتدعم هذا البناء. فالإنسان مهما كان حبه وانتماؤه وولاؤه لوطنه كبيراً وعظيماً إلا أن انهيار أعمدة حقوق الإنسان واحدا تلو الآخر سيجعل الإنسان عاجلا أم آجلا يضطر للخروج من الوطن إما باحثا عن رزق أو باحثا عن أمن أو باحثا عن كرامه.. ولك في قصة المصطفى عليه الصلاة والسلام العبرة والمثل، حيث إنه بقي صابرا متصبرا يتحمل شتى أنواع الاعتداءات خلال ثلاث عشرة سنة، ولم يأذن الله عز وجل له بالهجرة والرحيل عن مكة إلا بعد أن انهارت الحقوق الرئيسية للإنسان وهي الأمن والكرامة والرزق، فقريش قد نالت من حقه في الكرامة بعد أن تجرأ عليه السفهاء وقذفوه بأبشع الأوصاف والإهانات.. ثم نالت من حقه في العمل لتأمين رزقه وقوته بعد أن تعرض هو وعشيرته للحصار والمقاطعة.. ثم نالت من حقه في الأمن والأمان بعد أن أصبح محاطا بالأخطار ومهددا بالقتل.. فهنا وهنا فقط وبعد أن انهارت الحقوق الرئيسية للإنسان والتي لا يمكن الاستغناء عنها بأي حال من الأحوال أذن الله عز وجل لرسوله صلى الله عليه والسلم بالهجرة من مكة التي هي أحب البقاع إلى الله وأحب الأوطان إلى مصطفاه. * باحث إسلامي [email protected]