حدثنا أبو العريف، وهو يكتم إحساسه، ويتنهد فتحرق التنهيدة أنفاسه، ويكاد من ألم يغص، وكأن كبده انشق (بالنص)، قال، ويا له من قائل، إن كان متفائلا أو غير متفائل: «كنت فى المستوصف، كما الكل يعرف، أطلب العلاج لزوجي المصون، بمن الكريم المضمون. وكنت أمتع العيون، بمنظر مدرسة كبيرة، تملأ طول الشارع، مقابل مستوصف النطاسى البارع، وهي مدرسة للأولاد، جيل المستقبل، وأمل الآباء والأجداد. وأخذني التفكير في هؤلاء الفتيان، وما هم عليه من سعادة بوجودهم فى هذه المدرسة عظيمة البنيان، والتى لو توفرت في زماني، لكنت من الأعيان، لا أجيرا أطرد من دكان إلى دكان. بل زاد في (سرحاني)، ما يوفره السادة الآباء، من خدمات للأبناء، فهم يتركون فراشهم باكرا، ليذهبوا بأولادهم قبل الدوام، وقبل قرع الجرس وشد الآذان، ويخترقون شوارع، الله أعلم بها، وازدحامات لا حل لها، وشوارع مسدودة بمشاريع تحت التنفيذ، وأخرى مسدودة بمتنطع تلميذ، لم يبلغ العاشرة، وهو يقود سيارة كالقاطرة، يقطع بها الصفوف، ويقود (كالملقوف). والآباء يعانون، وكذلك السائق الإندونيسي، والفلبيني والسرياقوسي. وتصبح الشوارع وكأنها (سيرك) حي، ليس فيه قرود ولا فيل هندي، ولكن بعضنا ممن بهؤلاء يقتدى. وتستمر رحلة العذاب، حتى يبلغ الأب من المدرسة الباب، وينزل الأولاد الأحباب، ليبدؤوا يوما من التعليم من ذهب مذاب. ويدخلون الصفوف ويخرجون، ومع كل دخلة وخرجة علما يزدادون، ومن معين الكتب ينهلون، فإذا كانت الفسحة (يهيصون) ويبرزون المصروف السخي بنزق، الذي بذل الأب في سبيله العرق، فيشترون ما لذ وطاب، (يبعزقون) على ضيافة الأصحاب». قال أبو العريف: «وفجأة أصابني الذهول، ولم أعرف ما أقول، فقد امتلأ الشارع أمام المستوصف بالسيارات، وحضر الآباء والسائقون بالعشرات، ينتظرون خروج الأولاد، لتوصيلهم إلى البيت السعيد، ويعيدون مهرجان الصباح على الطرقات من جديد .... حين تجمهر عدد من الطلبة البيض والسمر، بين العاشرة والرابعة عشرة من العمر، أخذوا يفتحون باب المستوصف ويقفلونه وهو مصنوع من الزجاج، وليس باب بيت دجاج، بل هنا مرضى وأطباء، وممرضون وممرضات. وأخذ الطلبة يتصايحون ويتضاحكون، ويبرزون من باب المستوصف فيسبون ويلعنون، ومسؤولة الاستقبال في سن أمهاتهم، وهي تشيح بوجهها عن شتائمهم وقبيح كلماتهم ومسباتهم، فقد وصفوها بالحمارة، وبنت ال ..... وكلمات أخرى تدل على الاحتقار بل الحقارة. وأخذ الطلبة يدخلون المستوصف، ويعيثون الفساد، كأنهم رتل من الجراد، ولا رادع يردعهم، ولا من يتصدى لهم، والسبب معروف! وماليس بمعروف: هو أين تربى هؤلاء المساكين، ومدرستهم تتبع «وزارة التربية والتعليم»؟ فنصفها تربية، وما فائدة التعليم إذا لم يقترن بالتربية؟ وهل التربية تختص بالبيت وتختص المدرسة بالتعليم، وهل البيت مسؤول، الأم أم الأب، أم الخادمة البتول، والسائق المجهول؟ من يربي هؤلاء، ماهي التربية ياعقلاء؟ الأغنام تربى لتسمن، وتجلب في سوق اللحم أغلى ثمن، أما الأولاد فيربون على المبادئ والأخلاق الحميدة، لتعلو قيمة الأمة بين الأمم المجيدة، ويربى الثيران على القوة والركل والنطاح، لتغلب في سوق المصارعة، وبين البقر بالنكاح، أما البشر فيربون على القوة والأدب والذوق، لتعلو بهم الأمة إلى فوق، حيث مصاف البشر المختارين، من عباد الله الصالحين، والعلم في الصغر كالنقش على الحجر، وأولادنا ليسوا حجرا بل بشر، والنقش فيهم بهذه الطريقة سيحيلهم حتما إلى كتل من الحجر، ليس لها مقام بين البشر. وكما قال قيس ليلى الباهلي: «كجلمود صخر حطه السيل من عل». وتوقف أبو العريف عن الكلام المباح. للتواصل أرسل رسالة نصية sms إلى 88548 الاتصالات أو 636250 موبايلي أو 737701 زين تبدأ بالرمز 129 مسافة ثم الرسالة