الخلاف العلمي بين علماء الشريعة حقيقة قائمة لا يفهم منها قدح في الشريعة ولا اضطراب في أحكامها، بل هو أثر متوقع لاختلاف عقول الناس ومداركهم من جهة، ولمعرفة الأدلة وظهورها للعالم من جهة أخرى، سواء كان ذلك في المسائل القديمة التي لم يحسم الخلاف فيها، أوفي المسائل المستجدة التي هي مظنة للخلاف بطبيعة الحال، ولعل هذا الخلاف يكون رحمة وتوسعة على الناس في صورته الأخيرة. ولتفاصيل الخلاف ومباحثه ميدان وموضع ليس منه الفضاء الإعلامي المفتوح، إلا في حالات نادرة وفي قضايا خاصة يقتضي السياق أو الحال في وقت ما أن تطرح على الملأ، وإلا فإن الأصل أن لا يمتحن عموم الناس بايراد الخلاف على أسماعهم، وهم لم يعرفوا مصطلحات أهل العلم أصلا ولا فهموا معاني ردودهم ولا أصولهم العلمية، بل ربما لا يخرج بعضهم من المناظرات العلنية إلا بالشك في قول سمعه أو فتوى عمل بها فيما مضى، فضلا عما يستتبعه ذلك من إضعاف الثقة بأهل العلم وتوهين أقدارهم، مع ما فيه من إشغال نفوس الناس والتشويش عليهم، وقد يذهب بعضهم إلى اتباع هواه في كل مسألة وقع فيها الخلاف لمجرد وقوعه، إذ لا يعرف منهجا صحيحا يسير عليه فيدرك به الصواب عند وقوع الخلاف. وإذا كان الإعلام اليوم مع انفتاحه الهائل وحاجته الماسة لتوليد القضايا المثيرة قد مال إلى ابراز الخلاف واستحضار أطرافه وإذكاء المناظرات العلنية استقطابا للجمهور، فينبغي لأهل العلم أن لا ينجروا إلى هذه الزاوية إلا حين يقتضي الموقف ذلك. وبرغم أن بعض القضايا في هذه الأيام قد تم تناولها على هذا النحو، فإني أرى أن ذلك كان مناسبا لأن بعض أطرافها قد فرد شبهاته على صفحات الصحف فاقتضى الموقف حوارا مفتوحا مفصلا مع ما في ذلك من آثار ضارة ليس هذا مقام بيانها، إلا أن الموقف لم يكن يسمح بغير ذلك، ولكني أشير هنا إلى ما أخشى أن يؤول إليه الأمر في القادم من الأيام أن يتوالى تناول القضايا الشرعية على هذا النحو لتخرج عن إطارها العلمي الرصين في موضعه المناسب إلى ساحة المناوشات الإعلامية المتطلبة للإثارة والمفضية للتشويش، وهو ما لا يقبله العقلاء عموما بل ولا يمارسونه في معظم ما يتعلق بحياتهم في الجوانب الأخرى من طب أو فلك أو هندسة أو نحوها. [email protected]