إن هذه الشريعة الخاتمة التي بعث بها محمد -صلى الله عليه وسلم- مبنيةٌ على قاعدة تحقيق المصالح ودرء المفاسد وهذا أصل مقادها وقواعدها عند سائر أئمة العلم والدين بل هذا أصل مقاصد الشرائع والرسالات السماوية جميعًا. وخير المصالح وأجلها تحقيق التوحيد، وشر المفاسد وأعظمها الشرك والكفر بالله. وهذه الشريعة الخاتمة هي أقوم الشرائع في تحقيق هذا الاعتبار، ولهذا فإن سائر أحكامها الخاصة والعامة اللازمة والمتعدية في العبادات والمعاملات والعقود والعهود جاءت على هذا النسق. ومن هنا كان التفقه في الدين من أخص أبواب الخير، وأشرف مقامات الاتباع لهدي المرسلين عليهم الصلاة والسلام. ولابدّ للأمة من قائمين بهذا الأصل الذي هو معرفة أحكام الشريعة ومقاصدها لتحقيق العبودية لله بما شرع وليقوم الناس بالقسط، فالالتفات إلى تحقيق مناط الأحكام والتصورات التي يعتبرها القائمون في هذه الأمة بتقرير مسائل الشريعة، واستعمال الفقه في النوازل والحوادث التي تتعلق بحقوق الأمة كافةً هو من حفظ مقام الديانة، وحفظ الدماء والأعراض والأموال، ومنع الفساد في الأرض، واستعمال الفقه في هذا الباب له اختصاص بمقام العلم، والقول فيه بلا علم هو من موجبات الفساد وأسباب ظهور البغي والعدوان. وهذا حديث موجز في فقه الموقف من الأحداث والنوازل الكبار للأمة نعرضه من خلال السطور التالية: يستعمل لفظ الفقه في دوائر التخصص بمعنى فقه أحكام المسائل التفصيلية من العبادات أو المعاملات وهي المسائل التي تكلم الفقهاء في أحكامها وأدلتها سواء كانت من معاقد الاتفاق وموارد الإجماع، أو كانت من مسائل الخلاف بين الأئمة والفقهاء، وهذا لاشك أنه من الفقه في الشريعة ولكنه ليس كلَّ الشريعة ولا كلَّ الفقه. ولا جدال في اعتبار هذا اللون من الفقه ولا في فضله، بل الشأن في قصر قاعدة الفقه ونظامه عليه. فحين يكون النظر في مسألة خاصة من آحاد مسائل الفروع، وربما كانت عند التحقيق مما وسّع الشارع فيه، وقد لا يكون فيها سنة، وقد تكون دائرةً في باب الندبِ، أو مترددةً بين الندب والإباحة، أو بين الإباحة والكراهةِ، أو حتى بين الكراهة والتحريمِ، أو الصحة والفساد. فإن هذه المسائلَ تظل مقصورةً على محلها ولا يتعدى حكمها إلى التعلق بما هو من ثوابت الشريعة وقواعدها، وحقوق الأمةِ العامة ومصالحها. ومع هذا ترى في مثل هذه المسائل عنايةً لدى الناظرين من الشيوخ والطلبة المتفقهين، وتجد سبر الأدلة وتحقيقها وجمع الأقوال وتحصيل الراجح وإطالة النظر في اعتبار الحكم وتحقيق مناطه، وترى من ليس من أهل الاختصاص بهذا العلم يقع له هيبةٌ وإحجام عن القول فيها لما يوجبه ذلك من الافتيات على الشريعة. وهذه لاشك حال فاضلة، وإذا تحقق باعتدال وقصد فهو من تعظيم مقام الشريعة، ولهذا يذم من قصر فيه من أهل الطلب ممن يستعجل القول في الأحكام والفصل في الخلاف. لكن ما هو أولى بالذم من هذا ما يعرض لبعض الناظرين والطالبين ممن يتخوض في تقرير أحكام النوازل وبناء المواقف على اعتبارات شرعية، وهو لم يحقق ما تقتضيه أصولها وقواعدها من الفقه والاستنباط مع أنها قد تكون مواقف تعد بحق فواصلَ في تاريخ الأمةِ. إن من نقص الفقه في دين الله أن يصير الناظر أو المتكلم إلى مسألة مفصلةٍ قد جمع العلماء حكمها ودليلها وقاصيها ودانيها، فيمعن النظر ويطيل النفس في التحصيل، وربما تكلف بعضهم فوق قدر المسألة عند العلماء، لكنه حين يصير إلى قول في موقف أو قضية عامة مركبةٍ معقدةٍ يأخذها بظاهر من النظر، وقليلٍ من الاعتبار، ويهجم عليها بلا تردد ولا روية، حتى إن قضايا النوازل تصبح مادةً لحديث كل أحدٍ: في أسبابها ومفاصلها ومآلاتها، ويصدق هنا قول ابن عمر رضي الله عنهما لبعض أهل العراق: ما أسألَكم عن الصغيرة وأجرأكم على الكبيرة. والغريب أن مسائل النوازل حين تكون من جنس المسائل المفصلة التي تكلم فيها الفقهاء لا يقع فيها استعجال في الغالب لتجردها عن المقارنات العامة، ولقرب شبهها بالمسائل المفصلة المعروفة عند الفقهاء. لكن حين تكون النازلة حدثًا عامًا، وتكون مادتها مركبةً من مؤثرات شتى فكأن هذه المؤثرات جردت عنها هيبة الشريعة فيصير القول فيها عند العامة وبعض الخاصة من جنس القول في المسائل المبنية على توسعة الشريعة وبحبوحتها والتي يدرك فقهها جمهور أهل الإسلام ويفوت على هؤلاء ما يقتضيه الموقف من الأثر المتعلق بحقوق الأمة الكلية وضروراتها التي جاءت الشريعة بحفظها وتحصيلها. إن الموقف هنا يجب أن يكون محصلًا من أدلة الشريعة بحق، مبنيًا على قواعد الهدى والرحمة التي بعث بها عليه الصلاة والسلام.