تجد في بعض الأحيان بشرا ملامحهم تشبه الشوارع المنطفئة، وجدران البيوت الباهتة، غير أنك حينما تلتقي بهم، تكتشف أن خلف السحنات والوجوه البائسة أرواحا مشعة، متوثبة تضاء بزيت العافية والمحبة.. هذه هي الشخصيات التي يرسمها باحتراف، وعبر لغة سلسة وعفوية الدكتور والكاتب عبد الرزاق العصماني في كتابه (لمن تفتح أبواب السماء) الذي دفع به هذا الشهر إلى المكتبات والقارئ. في هذا الإصدار وهو من الحجم الكبير، يستنهض العصماني الذكريات والشخوص من أقاصي الذاكرة، ويستعيد معهم رحلة الحياة، وحينما تطالع نتف الحكايات تجد نفسك لكأنما تسير في بهو أو سوق تعج بالبشر من كافة الأعراق والألوان. وحينما نتوغل في الحكايات العفوية نجد أنها مستلهمة من واقع خط الساحل، حيث البلدات الصغيرة والبشر الذين يعرفون بعضهم البعض، ويرمون التحية لمن يلتقونه على الطريق. من الشخصيات الواردة في هذه الأقاصيص، حكاية شاهر عطا الله الرجل العفوي الذي يحمل في داخله كاريزما من نوع خاص، وفي هذه الحكاية المنسوجة من زيت الواقع، يفضفض المؤلف عن الإنسان القروي المجبول على الطيبة وحب الخير والمحبة والتضحية. تداعيات الماضي حكايات العصماني عن شخوصه وأبطال كتابه كلها عبارة عن تداعيات لزمن مضى، زمن لم يكن فيه الجار يغيب عن هموم جاره، وفي حكاية حمدان خشقانه يتجلى المؤلف في الوصف الدقيق لهذه الشخصية الوديعة المسالمة، رجل يأتي من زمن آخر يحمل في حناياه الطيبة، ويتجول بين البلدات الصغيرة في موسم جني الرطب تماما مثل الدرويش المتجول، كما صوره الشاعر السوداني محمد الفيتوري، وإذا كان الدرويش في نص الفيتوري يبحث عن ملح لجراحه، فإن حمدان المرتحل من قرية إلى أخرى يرتدي ملابس تفوح منها رائحة النباتات العطرية في تهامة. بيت الهيجة يمضي المؤلف في سرد حكايته عن سكان بلدة أضم في خط الساحل في محافظة الليث، ويتسلل في حرفية صدقية العلاقة حينما يبحر في سرد حكاية بيت (الهيجة) تلك الأسرة القادمة من الجنوب العربي، حينما كانت الحدود عبارة عن رسوم في الخرائط فقط، وكيف أن هذه الأسرة التي استوطنت أضم اكتسبت حب الأهالي لما يتمتع به أفرادها من بذل وعطاء، وكيف أن منزل هذه الأسرة كان بمثابة واحة للمعرفة للكثير من الأهالي في زمن لم تكن وسائل المعرفة متوافرة للناس. في هذه الحكاية الواقعية يعزز المؤلف كيف أن الأخلاق والمعاملة الحسنة من البشر، يمكن أن تضعهم في مرتبة عليا عن الآخر. وفي خواتيم الحكاية يتصاعد هتاف الحزن بعد رحيل الهيجة من البلدة إلى مكةالمكرمة، ومنزلهم أصبح في الوعي الجمعي للكثيرين موقعا للأشباح، كما هو الحال بالنسبة للبيوت المهجورة في القرى والهجر. الحب الأول في حكاية «علية» يتجلى المؤلف بحنكة وبراعة في تصوير النفس البشرية، ويصور بطلة الحكاية علية تلك المرأة التي تقطر عفة وحياء وعفوية، ويجسد علاقة حب أولى بينه وبين إنسانة تحمل في حناياها طيبة أهل القرى. في هذا الحكاية كأنما يريد المؤلف أن يكشف عن حقيقة بين الحب في اليوم الراهن والحب في الماضي، وكيف أن الحب كان في السنين الخوالي عفويا. رجل كاريزما يمضي المؤلف في نسج الحكايات المستلهمة من الواقع، ويتحدث عن والده في حميمية مفرطة، حيث كان والده، كما جاء في سياق الحكاية، يتمتع بكاريزما خاصة في فض المنازعات، ورجلا من الأجاويد الذين لا تزال آثارهم موجودة في المناطق الريفية، كما يتحدث بعفوية عن شخصية أبو فراس، ذلك الرجل الأسمر الصامت الذي حينما تنظر إليه تظن أنه يحمل قسوة في قلبه، لكنه في الواقع رجل طيب المعشر، صافي السريرة لا يعرف الحقد ولا اللؤم. كما يكتب العصماني في سياق سرده عن أمه وعن السيدة الأمريكية مسز سميث، وعن فتاة السابعة والنصف، وحكايات أخرى من صميم الواقع واليومي الراهن. يشار إلى أن العصماني رجل عصامي من طراز أول، فقد عمل مراسلا صحافيا لعدة صحف محلية، ورغم دخوله مجال العمل مبكرا، إلا أنه استطاع أن يمد شجرة طموحاته حتى نال درجة الدكتوراة من إحدى الجامعات الأمريكية. تجلت روعة هذا الرجل في إهدائه الكتاب لوالدة زوجته، التي قال عنها في الإهداء «إلى أم أحمد.. أم زوجتي.. الأم التي لم أرها إن كان في هذا الكتاب لمسة وفاء وعرفان بالجميل، فلا أقل من أن أدعو لك بالرحمة والمغفرة، فما أكثر ما أوصيت زوجتي بي خيرا.. أفتقدتك تماما كما أفتقدك حفيديك خالد ومي، فإليك.. وإلى كل نفس تعشق الخير وتزرع الحب أهدي كتابي هذا».