صدر عن جامعة الملك سعود مؤخرا، كتاب يوثق للندوة السعودية الفرنسية بين جامعة الملك سعود وبعض الجامعات الفرنسية، والتي عقدت في العام الماضي، وشارك فيها ثلاثون أستاذا جامعيا سعوديا وفرنسيا. وبالرغم من أن الكتاب في فصوله المتعددة قد ركز على مسألة حوار الحضارات، إلا أن مشاركات الباحثين فيه قد أضفت طابعا ثقافيا متميزا ومتنوعا لرؤى ثقافية وقانونية وسياسية متعددة. ُأستهل الكتاب بمقدمة تاريخية كتبها الأمير تركي الفيصل، عن العلاقات العربية مع فرنسا، وعلاقة المملكة مع تلك الدول الصديقة منذ أصل لهذه العلاقة كلا من الملك فيصل بن عبد العزيز، والرئيس الراحل ديجول. وكتب شارل سان برو، فصلا جميلا عما يسميه معركة القيم الروحانية، والتي ذكر فيه أن الأزمة التي يعيشها العالم في الوقت الحاضر ليست في الصراع بين الإسلام والمسيحية، ولكنها في تجاهل وجود العنصر الديني في الحضارة الغربية، وتركيز الإيديولوجيات المادية على مناوأة الأديان، وأضاف بأن حمى الحداثة قد جعلت الكثير من الغربيين يدعون ويتبجحون بأنهم رجال المستقبل، القادرون على التحكم الأوحد بمصائر مجتمعاتهم. وكتب الدكتور عبد الله الحميد فصلا عن إشكالية العلاقة بين السلام والكرامة الإنسانية في حوار الحضارات، وذكر فيها أن هناك «تصورا مشروطا للسلام، يجعل العنف مبررا من الناحية الأخلاقية، وكذلك فإن مفهومي «الحرب العادلة في التراث الغربي والجهاد في التراث الإسلامي»، هما مثالان على إمكانية التضحية بالسلام، بهدف تحقيق الكرامة الإنسانية»، . وتساءل الدكتور مشاري النعيم في فصل له عن مفهوم حوار الحضارات ومقولاته المختلفة. ورأى أنه «لا توجد اختلافات حضارية أو ثقافية بين الشعوب بالمعنى المطلق، إنما توجد اختلافات ثقافية نسبية مردها اختلاف السياقات التاريخية للتغيرات المادية لهذه الشعوب». وفي فصول أخرى من الكتاب، تناول عدد من أساتذة الإعلام ومنهم الدكتور إبراهيم البعيز مسألة الإعلام والصور النمطية، وحاول الدكتور حميد الشايجي سبر توجه الشباب السعودي وآرائهم حول الثقافات والدول الغربية، ووجد أن هناك نمطا من عدم الرضا بين الشباب السعوديين عن سياسات تلك الدول، خاصة الولاياتالمتحدة وبريطانيا وفرنسا. إلا أن نظرة الشباب نحو فرنسا كانت أكثر إيجابية من نظرتهم نحو كل من الولاياتالمتحدة وبريطانيا، وأرجع ذلك إلى الموقف المناوئ للحرب في العراق، والذي اتخذته الحكومة الفرنسية عام 2003م. غير أن إعجاب الشباب السعوديين «بالمنجز الأمريكي» كان أعلى من إعجابهم «بالمنجز الفرنسي». وحاول الدكتور محمد الوهيد سبر هذه الصورة النمطية بشكل أكثر عمقا لدى هؤلاء الشباب، فسأل عينته عن إمكانية ارتباط هؤلاء الشباب بالزواج من الغربيين، وقد حصل على نتيجة غريبة، وهي أن 35 في المائة من الشباب السعودي الجامعي لا يرى مانعا من الارتباط بالزواج من الغرب. أما «فلورنس جان» الأستاذ بجامعة كورسيركا فكتب فصلا ممتازا عن الصور النمطية في الثقافة الفرنسية، وتقصى هذه الصور منذ رسومات وصور الجواري «العاريات» في صور الرسام الفرنسي «إنجر»، إلى ما كتبه المفكر الفرنسي الشهير مونتيسكيو في المجلد السادس عشر من كتابه «روح القوانين» من انتقاد حاد لتعدد الزوجات في الثقافة الإسلامية، ونعته للحكام المسلمين بالاستبداد. وكتب أستاذ فرنسي آخر مهتم بالإنثربولوجيا «الدكتور بيير بيدار» عن مفهوم العقل والمعرفة في القرآن الكريم، والتي تحويها نحو 750 آية في القرآن، ودعا إلى ما يسميه نشوء نزعة إنسية عربية وإسلامية جديدة. وكتب «الدكتور عبد الله العسكر» فصلا عن دور الترجمة في الحوار الثقافي، بينما تناول «الدكتور علي الغامدي» دور التعليم في حوار الحضارات، ودور جامعة الملك سعود في هذا المضمار. وفي نهاية الكتاب، دعا الدكتور إدموند جوف إلى اعتبار السلام أساسا للقيم المشتركة بين الأديان، وفي آخر فصل من الكتاب قدم الدكتور «هنري فيديه» عرضا رائعا للعلاقة بين الدين والمال. ورأى أن عدم احترام الأسواق المالية للقواعد الأخلاقية، قد زج بالعديد من المجتمعات إلى أزمات مالية واجتماعية واقتصادية محتومة. وفي النهاية، فإن هذا الكتاب بتنوعه الثقافي يقدم عمقا ثقافيا وحضاريا مثيرا لقارئه.