المدينة التي تشتعل طرقاتها ليلا.. الساحات التي تمتلأ بضجة الاحتفالات.. بريق السيارات وازدحام المارة.. الحياة المدنية المعاصرة بحجارتها وحديدها بمبانيها الشاهقة وبتقنياتها العالية لم تسلب من ذلك الشاب بريقه الذاتي!!. الليل الذي احتساه رفاق عمره لهوا ولعبا، بعثه هو ضجة في زاويته الصغيرة المظلمة.. رفوف المكتبة.. الطاولة الصغيرة، المصحف الذي أهداه له شيخه.. مغريات الحياة المادية سقطت في تلك الحجرة حين قرر في لحظة توبة أن يعود إلى الله.. جرب رغم التثاقل حاول رغم اشتهاء المعصية وحين بدء تغيرت الحياة فكان الوصال الرباني حاضرا حلق في فضاء العبودية وارتقى في مراقي التلاوة، تمازجت دموع عيونه برفرفة اشتياقه لمناجاة ربه، يالها من لحظات ما كان يظن أنها ستتفوق على لذة الحياة في بلاد الغربة ولكنها كانت! تسابقت أنفاسه تدك حصون المعصية حصنا حصنا حتى برز المتواري خلفها بياضا يتشح بالنور، وإيمانا يعلو مع نبض كل آية يتلوها، توقف بحلول الفجر .. كان شيئا آخر .. حالة أخرى.. تفوق في مهمته العلمية وبرز في وظيفة الرسل داعيا يقدم تميزه الأخلاقي نموذجا يأسر الآخرين، أخذته الحياة، جذبته أطرافها، فتحت له أبواب مغرياتها، فقرر الانفكاك عنها والاتصال بالله. كان هذا حال الشاب السعودي المبتعث الذي تنفست إيمانه الحيي في أجواء حياة صاخبة، رأيت كلماته كأنها تسير قوافل من الصور تتزاحم في معاني سامقة، طموح وثاب وهمة عالية واستشراف رباني وتفوق في معاني الرجولة. في التسامي إلى مراتب الإيمان أحوال يهبها الله للمؤمن الذي يحبه ولطلب الحياة في كنف العبادة مسارات يدركها الركع السجود، حين تغيب العيون في دائرة الأحلام يفرون هم إلى منابع الحق. مناجاة ولهفة وأشواق تخضع لمحبوبه، وأي حب وأي علاقة اتقى وأنقى من علاقة العبد بربه، من علاقة الواهب بالموهوب، الرازق بطالب الرزق، في قراءة سير الصالحين والاندفاع لتحصيل ما حصلوا والاشتغال بجوانب التزكية وإرغام النفس وترويضها على التخفف من متع الحياة وزخرفها، مفتاح تاريخي فتحنا به أبواب الحضارات، وصنعنا به نموذج حضارتنا الخاص، ورغم كل محاولات النهوض، ما زال عجزنا الأول والأهم في ذواتنا في نفوسنا وهي أصعب معركة نخوضها منذ قرون، في محاولة للتغلب عليها وإعادة تطويعها خدمة للإسلام، ولكنها تعاندنا فتكسر محاولات صعودنا، وهذا الجيل إزاء تفوقه المادي ننتظر أن يتغلب في معركته الأولى على جموح رغباته ليقدم لنا صورة المسلم المعاصر، كما تفوق هذا الشاب النموذج على نفسه. الأنس بالله حالة جميلة يعيشها المؤمن الموفق، فاللهم وفقنا إلى أحوال الصالحين ومراقي السالكين.